مقال رأي |
هناك شعور عام بأنّ التضامن مع القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني أقوى من ذي قبل. منذ بداية الأحداث في أواخر شهر رمضان وحتى بداية العدوان الإسرائيلي على غزة، خرج العديد من المشاهير والفنانين والمفكرين والشخصيات العامة ذات التأثير في المجتمع الغربي للتعبير عن موقفهم المساند للقضية الفلسطينية ورفضهم للعدوان الإسرائيلي.
المختلف في هذه المرّة هو حجم التضامن في المجتمع الأمريكي، وهو التضامن الذي تخشاه "إسرائيل" فعليًا
تعدّى موقف بعضهم إلى التعبير عن مناهضتهم للصهيونية وروايتها، ودعواتهم للفصل بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية. أطلق الممثل الأميركي الشهير مارك روفالو حملة للتوقيع على عريضة تطالب بفرض عقوبات على "إسرائيل".
يشعر الكثيرون كما عبّروا في منصاتهم على السوشيال ميديا أن هذا التضامن غير مسبوق. الأهم من حجم التضامن، هو اللغة التي يستخدمها المتضامنون، حيث يستخدمون مصطلحات لم تكن موجودة في قاموس التضامن مع فلسطين بهذه الكثافة من قبل، مثل فرض عقوبات ومقاطعة ودولة عنصرية ومذابح عرقية ودولة أبارثية (دولة أبارتهايد) واحتلال، والكلمة الأهم: النكبة.
عند النظر إلى أوروبا نجد أن التضامن لم يتغيّر في طبيعته أو حجمه كثيرًا، لطالما وقفت الشعوب الأوروبية إلى جانب القضية الفلسطينية، هذا التضامن أصبح من التقاليد التي اعتدنا عليها، ومن الطبيعي أن يزداد حجم التضامن يومًا بعد يوم، خاصة مع وجود متضامنين مخلصين يجتهدون في نشر الحقائق عن القضية الفلسطينية، ولا يدخرون فرصة لكسب المزيد من أوراق الضغط في وجه الصهيونية العالمية الداعمة لـ "إسرائيل".
الأجيال الشابة من أصول فلسطينية، من الجيل الثالث والرابع ربما، لم يتخلوا عن هويتهم الفلسطينية، بل أصبحوا من أكثر ما يقلق اللوبي الصهيوني حاليًا
المختلف في هذه المرّة هو حجم التضامن في المجتمع الأمريكي، وهو التضامن الذي تخشاه "إسرائيل" فعليًا فهي لا تكترث بشأن الرأي العام في أوروبا، فأوروبا لا تستطيع الضغط كثيرًا على "إسرائيل" مهما كان الرأي العام فيها قويًا ومؤثرًا. خاصة مع وقوف أمريكا بالفيتو الفولاذي في وجه أيّ مشروع، أو حتى مجرد بيان، في الأمم المتحدة أو مجلس الأمن.
من المهم أن نسلّط الضوء على التغيّر الحاصل في المجتمع الأمريكي وآثاره، حيث يتوقع أن تأثيره سيكون كتأثير الدومينو، معدٍ لينتشر في كلّ مكان. وليس من الصعب شرح أسباب قوة تأثير الرأي العام الأمريكي، وقوة تأثير نجوم أفلام هوليود المشهورين حول العالم. فنحن نعيش في عالم يتأثر بالصورة وبالمعبودين من كل الفئات، المشاهير والكتاب والمفكرين، هذا عالم لم يعد يسمع كثيرًا للسياسيين والنخب، عدا عن كون العالم قد فقد الثقة في الأنظمة السياسية.
بالطبع قد يقلق هذا "إسرائيل"، لكن في النهاية ما يقلقها فعلًا هو المجتمع الأمريكي نفسه وقوة خطاب اللوبي الصهيوني المؤثّر على السياسة الأمريكية، وقدرة أمريكا على استمرار دعمها اللامشروط لـ "إسرائيل" أمام قوى العالم.
ينبغي أن لا ننظر إلى التغيّر الحاصل في المجتمع الأميركي كحدث مفاجئ أو معزول
أهم الأسباب في هذا التحول لاشك أنه الصّمود الفلسطيني على الأرض وخارجها. لأن التغيير لا يحدث بين ليلة وضحاها بل هو سيرورة. الإصرار والصمود الفلسطيني، في الوقت الذي راهن فيه الاحتلال على نسيان الأجيال الصغيرة للتاريخ وذوبان هويتها، يزهر اليوم. إن ما يحدث الآن من تغيير، لم يكن ليثمر لولا جهود من المقاومين والناشطين والمخلصين للقضية الفلسطينية. في مرحلة ما، لم يكن من السّهل الحديث عن المقاومة أو النكبة أو فلسطين في الأوساط الأكاديمية والفنية والفكرية، غير أن كثيرين أصرّوا أن يختاروا الصمود، ودافعوا عن حق الوجود الفلسطيني وعدالة قضيته. ولم يكن لهؤلاء أن يصمدوا لولا استمرار المقاومة على الأرض، والتي جعلت القضية الفلسطينية حاضرة في المجالات العمومية. والعنف الذي يراه البعض لا مبررًا، في بعض الأحيان كان السبب الوحيد الذي يفرض قضيّتنا على أجندات العالم القوي الذي لا يهتم سوى بمصالحه.
لولا المقاومة لما كان الصمود، ولولا الصمود لما بقيت القضية الفلسطينية بهذا التوهُّج القادر على التجدد. إن المقاومة جدوى مستمرة، وما يحدث اليوم ليس وليد اليوم، بل هو وليد سنوات طويلة من النضال والمقاومة والصمود.
ما هو سرّ القضية الفلسطينية؟ ما سرّ تمسك هذه الأجيال الصغيرة بكامل الحكاية من البحر إلى النهر؟ ما سرّ تمسُّكهم بالنكبة وكيف لم تنسهم أمريكا بلادهم الصغيرة؟
سبب آخر برأيي، هو أنّ تأثير السوشيال ميديا اكتسب زخمًا كبيرًا خلال الحركات الاجتماعية وحركات التغيير التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة، والمجتمع الأميركي خاصة، حركات مثل me too و black lives matter. حيث أصبحت وسائل السوشيال ميديا هي الميدان الحقيقي لتشكيل الرأي العام، وفقدت أدوات السلطة الرسمية ما تبقى لها من مصداقية.
كما أن هذه الحركات جعلت المواطن الأمريكي أكثر شجاعة في التعبير عن مواقفه واختيار عدم الصمت، خاصة عندما شهد أن كل المتخلفين عن الدفاع عن القضايا الإنسانية، والساكتين عن الانتهاكات، لن يكونوا بمأمنٍ من المساءلة والحساب. إن حركات التغيير كانت شعلة لمزيد من التغيير، فقد وصل المجتمع الأمريكي إلى نقطة اللاعودة. والتحالف القديم بين اللوبي الصهيوني والنظام الأمريكي والنخب، أصبح له مناهضين كثر من كافة الأقليات والإثنيات والمجتمعات المهمّشة، التي لم تعد مسلوبة الإرادة على الأقل في ما يخصُّ معرفة الحقيقة، ولم تعد تستسلم للرواية الرسمية.
وأخيرًا، أحد الأسباب المهمة جدًا هو الأجيال الشابة من أصول فلسطينية، من الجيل الثالث والرابع ربما، ممن تربوا في المجتمعات الغربية وأتقنوا اللغة وعايشوا منطق الثقافة الغربية. برز منهم المفكرون والأكاديميون والأدباء والفنانون والمؤثرون. لم يتخلوا عن هويتهم الفلسطينية بل أصبحوا من أكثر ما يقلق اللوبي الصهيوني حاليًا. هؤلاء لا يتورعون عن التعبير عن المكوِّن الفلسطيني في هويتهم بمناسبة وبلا مناسبة، من موضوع النكبة وحتى موضوع الفلافل. ويتحدثون بطلاقة ومعرفة وثقة من يمتلك الحق، ويمتلكون جمهورًا في المنصات وعلى الأرض أيضًا. في الوقت الذي راهن فيه الاحتلال الإسرائيلي على النسيان وذوبان الهويات في خضم حركة التاريخ، كانت النكبة بالنسبة للفلسطيني زمنًا فاصلًا في التاريخ، فأصبحت النكبة حاضرًا مستمرًا
قد يسأل البعض ما هو سرّ القضية الفلسطينية؟ ما سرّ تمسك هذه الأجيال الصغيرة بكامل الحكاية من البحر إلى النهر؟ ما سرّ تمسُّكهم بالنكبة وكيف لم تنسهم أمريكا بلادهم الصغيرة؟ لكن الإجابة بالنسبة لهذه الأجيال الصغيرة سهلة ومختصرة: إنها بلادنا. ولا حاجة لنا، أصحاب البلاد، في أن نفسِّر هذه الإجابة. فنحن نعرف تمامًا ماذا تعني، ونعرف تمامًا أنه مهما اجتهدت الرواية الصهيونية فإنها لن تستطيع أن تقتلع الذاكرة من جيناتنا. لقد كُنّا نعرف هذا، واليوم هم يعرفون أيضًا.
اقرأ/ي أيضًا: