من بين كل المساهمات العظيمة في بناء الهوية الفلسطينية، وفي صناعة الوعي الذاتي، نملك سببًا أصليًا وثلاث علامات راسخة رسوخَ الطود: نملك الحقّ سببًا كافيًا، ونملك أيضًا غسان كنفاني في السرد، ومحمود درويش في الشعر، وناجي العلي في الرسم.
من بين كل المساهمات العظيمة في بناء الهوية الفلسطينية، وفي صناعة الوعي الذاتي، لدينا ثلاث علامات راسخة
نجا درويش من قدره المنطقي، وترك رفيقيه يموتان شهيدين، ومات هو بأمراض القلب كما يموت غير الفلسطينيين. وكأنّ إبقاء هذه الهوية حيّة يستلزم الموت.
من الموحي أن غسان كنفاني هو أول من قدّم محمود درويش للعالم، وكتب عنه في سياق تقديمه لشعراء الأرض المحتلة، وهو أيضًا أول من نشر رسومات ناجي العلي. وبهذا المعنى، يكون كنفاني مساهمًا لأكثر من مرة في صناعة هذه الهوية، مرّة بما قدمه هو ذاته من قصص وروايات ودراسات، ومرات أخرى في دفع الآخرين ليقدموا مساهماتهم.
أمّا أهمية كتابات غسان كنفاني فتكمن في بحثها عن المعنى الفلسطيني من أجل نقله إلى الفضاء الرمزي، هكذا صار قرع جدران الخزّان في رواية "رجال تحت الشمس" رمزًا للتحريض على الثورة، ليس للفلسطينيين وحسب، بل لكل شعب مظلوم في العالم، وصارت أم سعد رمزًا لأهل المخيمات، كما صارت العودة إلى البيت المسلوب، بحسب رواية "عائد إلى حيفا"، تأكيدًا جازمًا أن لا خيار أمام المطرودين من منازلهم سوى المقاومة كي لا يحلّ فيها الغرباء. غسان كنفاني حجّار رموز من طراز رفيع، تمكن من إدراك الحقيقة الكبرى: الهويات تُبنى من الرموز. ولهذا ترك لنا معمارًا شاهقًا، قلعةً حصينة بناها في الضمير بحجارة تجعلها عصيّة على منجنيقات اليأس ومدافع المصالح.
هذه العلامات الكبرى ساهمت في صياغة الروح العامة للشعب الفلسطيني، وجعلت مساهمة الثقافة مساوية لمساهمات الشهداء
محمود درويش، أعظم شعراء اللغة العربية في زماننا، استطاع أن يجعل النكبة معنىً وفلسفةً ومصيرًا، لكي يقرأ من خلالها واقعه والصراعات التي وجد نفسه في خضمها، والفشل الذي أفضى بالأحلام إلى الشلل الكامل.
صنع درويش من النّكبة منظورًا فكريًّا، وهو منظور الخسارة. لطالما وصف نفسه في حواراته بأنه شاعر الخسارة. هذه الخسارة نجدها أكثر ما نجدها في قصائده الملحمية الكبرى، وسوف تتوّجها في النهاية قصيدة "لاعب النرد" بوصفها سيرة ذاتية للخسارة.
ناجي العلي ابتكر رمزية عالية من خلال شخصية حنظلة، فبخطوط قليلة جدًا من الحبر الأسود اختصر كل الحكاية، وهكذا انتقل ذلك الفتى الفلسطيني اللاجئ من أوراق صانعه ومبدعه ليسكن في جوار الرموز الوطنية والدينية. حنظلة الذي بدأ توقيعًا لناجي العلي نفسه، صنع ملامحَ لأبناء المخيمات، وصوتًا يمثّل الموقف المبدئي الصلب الذي لا يلين، ثم ـ لقوته الرمزية الاستثنائية ـ صار رمزًا عابرًا للجغرافيا. يمكنك أن ترى حنظلةً فضيًا معلّقًا بسلسلة تهتز على عنق شابّة سورية، أو وشمًا على كتف فتاة لبنانية، أو مطبوعًا على حقيبة شاب جزائري.
هذه العلامات الكبرى ساهمت في صياغة الروح العامة للشعب الفلسطيني، وجعلت مساهمة الثقافة مساوية لمساهمات الشهداء، ليس لأن صانعيها أنفسهم رحلوا شهداء، بل لأنهم ببساطة صنعوها من لحظة التماهي معها.
اقرأ/ي أيضًا: