01-أبريل-2018

(1)

تحت الأرض هنالك عالمُ مطابقُ تمامًا لما فوقها، تسكنه كائنات مخيفة تشم رائحة الدم وتتتبعه. أن تتوه داخله للأبد.. أن تنتهي هناك هو أمرُ واردٌ جدًا إلّا في حال كان لك عائلة لا تعرف اليأس وأصدقاء بقوى خارقة. عندها سيتم إنقاذك، عندها ستعود لعالمك الجميل. هذه مجرّد لمحة عن مسلسل الرعب "أشياء غريبة".

 تعقّدت الحكاية كثيرًا خلال سبعة عقود، بنى الإسرائيليون بيوتهم فوق بيتونا، ذكرياتهم فوق ذكريتنا، قبورهم فوق قبورنا! لقد ابتلعوا كل شيء حتى أوجاع لجوئنا 

طبعًا ليس هذا سوى مسلسل خيال علمي يمكنك أن توقف عرضه بينما تُعد الفشار أو الشاي الأخضر، ويمكنك أيضًا إعادة تشغيله وتكرار مشاهد معينة وقتما تريد. ولأنّ القلق والخوف الذي يتملكك وأنت تشاهد المسلسل هو ذاته الذي يصيبك أمام نشرة الأخبار فإنك ستتسأل التساؤل الأبله ذاته: ولكن من يوقف مشهد القتل من حياتنا؟ ومن يعيد لنا مشاهد البيوت الدافئة؟ ولأن لغز المسلسل محبوك بذكاء وحل اللغز يأتي فيما بعد مقنعًا ومنطقيًا فإنّه يجبرك على تبنّي مرحلة جديدة من الخيال تنفرج فيها أزمتك مع الأخبار كمواطن في بلاد محتلة، مرحلة تتخيل فيها عالمًا سفليًا مطابقًا لعالمك المحتل، وتبدأ بفهم قواعد اللعبة التي تكفل لك العودة حيًا لبيتك، تحتاج أن تفهم خريطة الأرض، تحتاج مجموعة جيدة من الأصدقاء الأذكياء والشجعان وتحتاج بالتأكيد للكثير من الصبر.  

(2)

يقول نمير: "لقد ذهبت بلا توقعات وظننت أنني كنت قد لقحت نفسي ضد أي خيبة أمل إضافية. فقد كنت قرأت كثيرًا عمّا يحدث للمهاجرين الذين يعودون بعد طول غياب وبحثهم، عن وعي أو بدونه، عمّا تبقى. قرأت عن الذاكرة الانتقائية وعن الحنين وشراكه لكن النصوص لم تنفع كثيرًا"، ونمير هو شخصية وهمية اخترعها الكاتب العراقي سنان أنطوان ليكون بطل روايته "فهرس"، ومهمّة نمير هي أن يكون شابًا عراقيًا يزور بلاده بعد سنين من الاغتراب وبالتأكيد تفاصيل أخرى كثيرة، عن الحب، الحرب والموت.

استعادة الماضي لا تكفي لخلق مستقبل، والتأويل على حبنا القديم للأشياء وذكرياتنا الغابرة معها سيفقد بريقه أمام أول لقاء بيننا وبين الشكل الجديد الذي أصبحته هذه الأشياء في غيابنا عنها. والوطن بأرضه وناسه من هذه الأشياء. ماذا نفعل إذًا لتفادي خيبة الأمل بعد سنين من الاغتراب؟ كيف نشرح لأنفسنا سرّ برود القلب وقسوته على البلاد التي نحب؟

(3)

في 14 أيار/ مايو المُقبل سيرأس نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس وفدًا رسميًا لافتتاح السفارة الأمريكية المؤقتة في القدس المحتلة. تقرأ الخبر، تبلع ريقك وترجو أن يمر اليوم بسلام، حقًا تريده أن يمر بسلام!

 لقد اختاروا أن يكون الافتتاح قبل يوم من ذكرى قيام دولة الاحتلال، أي قبل أن يُتمّ الفلسطينيون سبعين عامًا على نكبتهم. تعقّدت الحكاية كثيرًا خلال سبعة عقود، بنى الإسرائيليون بيوتهم فوق بيتونا، ذكرياتهم فوق ذكريتنا، قبورهم فوق قبورنا! لقد ابتلعوا كل شيء حتى أوجاع لجوئنا، إنهم يقولون إن مطالبتنا بالعودة إلى أرضنا ما هي إلا حربٌ لتهجيرهم من أرضهم!

(4)

على الطاولة أوراق بعنوان "استثمار الحنين للأرض" في الصفحات الأولى تذكير بأنّ الأرض قد لا تكون هي الهدف تمامًا، بل هي مجرّد أداة ملموسة ليكون الحديث عن فكرة الخير والشر -مثلًا-  حديثًا مفهومًا أكثر. صفحات عديدة بعدها بعناوين  تحذيرية وفيها شرح لأشكال المتاجرة بالحنين للأرض في البلاد المحتلة، أما الصفحات الأخيرة ففيها نصائح عامة، منها: عدم الاكتفاء بالحنين القديم للأرض.. اذهب للأرض وأصنع ذكريات جديدة عنها!


اقرأ/ي أيضًا:

الحنين إلى مايكروفون الانتفاضة

"منشورات تخليد الذاكرة": عن زمن فردوسي الصورة

مكالمة فائتة من البلاد!