من أين جاءت هذه الكتلة المطلبية في شوارع غزة؟
كأنّها ظهير حراك الضفة ضدّ الضمان الاجتماعي، كأن الضفة وغزة تتبادلان في لا وعيهما العبء المطلبي، في المكانين ثمة فجوة بين السلطة والجمهور، بين حزب يحكم ولا يعرف أنّ البيوت اختنقت بالعاطلين عن العمل، وغير الحاصلين على علاج، وحديثي تخرج صارت الهجرة حلمهم الوحيد، وعائلات تغار من ابن الجار الذي امتلك وظيفة وسيارة دفع رباعي في أقلّ من سنة.
كأنّ الضفة وغزة تتبادلان في لا وعيهما العبء المطلبي؛ في المكانين ثمة فجوة بين السلطة والجمهور
صحيح أنّ المحتجين كتلة شعبية مليئة بالتناقضات، لكن هدفها واضح: عيش وعدالة، يلتقي فيها رجل أعمال مع عامل معدم، شاب حداثي مع جدّه المختار في الدفاع عن اسم العائلة، أم مقهورة لخمسة خريجين لم تخرج من منزلها منذ أشهر إلى باب الحارة الذي يتجمّع فيه الأولاد للاحتجاج والتظاهر. هذه هي غزة بلا فلاتر التي يعرفها محمد الشيخ خليل وأكرم الصوراني وآخرون كثيرون.
هل يكرهون المقاومة في هذا الحراك؟ سألت أكثر من صديق هاتفيًا، لم ألمس كلمة ضد المقاومة، لكن ضد السياسة نعم، فثمة أسئلة كثيرة من العائدين من مسيرات العودة بلا عيون أو أقدام، وثمة مخزون ضخم من فواتير المنازل التي هدمتها الحرب، وثمة أسئلة مثقفة عن مقاومة لا تفرض على الإسرائيلي شرطًا جديدًا، وثمة ألف نكتة عن مسرحية الصواريخ التي حدثت مساء الخميس وصار الإسرائيلي يفهم على الفلسطيني فيها ويقول: غلطة ميكانيكية.
هل هذا الحراك ضدّ حماس لوحدها؟ سيبدو الجواب الأقرب أنه ضدّها، لماذا؟ لأن حماس جاءت بالضرائب الجديدة على كل شيء، كل شيء بما في ذلك مقتنيات الدرج الأسفل من ثلاجة العائلة الغزاوية إن وجدت الثلاجة، لكن كثيرين جاؤوا إلى الحراك ليس ضدّ حماس وحدها، فقد جاؤوا بشكاياتهم المتعددة، مثل مقطوعي الرواتب والممنوعين من الدوام في وظائفهم السابقة، وغير الحاصلين على ترقياتهم حسب قانون الخدمة المدنية، والغاضبين على فتح، والمتهربين من الجبهة الشعبية، والفاقدين الأمل في إصلاح منظمة التحرير، والغاضبين على وزارات الحكومة، والمقهورين والمحاصرين وغير القادرين على السفر، وفاقدي القدرة على شراء علبة سجائر بكرامة.
على حماس أن تسمع الناس جيّدًا
على حماس أن تسمع الناس جيّدًا، وأن تخطط للجواب استراتيجيًا، وأن تنفض عن نفسها تقاليد "الحزب الوطني الحاكم"، وأن تكتب لنفسها وصفات حمية من "السلطوية" تمنع فيه جمهورها ومحازبيها من البلطجة، أو قواتها من البطش، أو عباقرة أجهزتها الأمنية من وضع خطط "الإجهاز على المتظاهرين"، أو متحدثيها من استخدام حجة "الأجندات الخارجية".
مطلوب من هذه الحركة التي هي صنو فتح وباقي فصائل منظمة التحرير أن تجيب عن أسئلة كبيرة، أهمّها هل ستكون قادرة على حمل المسؤولية عن الزمن الفلسطيني المهدور في مرحلة الانقسام، هذه المرحلة التي بدأت تتلف وتتآكل وستأخذ معها كل العدة القديمة من الأحزاب والحركات، هل هي ذاهبة فعلًا بشبه "دولة الميناء" وشبه "دولة المطار" إلى النهاية، هل هي قادرة على حمل المسؤولية التاريخية عن إدارة فلسطينية غير حاصلة على الإجماع، هل هي راغبة إلى هذا الحدّ في الذهاب إلى نموذج سلطة لن يختلف كثيرًا عن سلطة منظمة التحرير التي لطالما أعابت عليها أوصافها السياسية والإدارية والايدلوجية.
على حماس أن تدرك أنّ حراكًا يبدأ بإلغاء الضريبة عن البندورة والسجائر سيجر طبقات جديدة من المطالب، فالشارع ماكينة مطالب، يبدأ الناس ضد قانون أو ضريبة ويصلون إلى المطالبة برأس النظام السياسي.
اقرأوا خطوات الغنوشي والنهضة والأتراك ومهاتير محمد. ليس في البعد المطلبي للجمهور حول الضرائب والوظائف فقط، بل في مسار البقاء في سدة السلطة بدون انتخابات، وبدون فكر سياسي يعيش حياته متنقلًا بين مقاعد البرلمان ومقاعد الدولة ومقاعد الحارة.
فكّروا بأنّ انتصاركم القديم على خصمكم لا يهم الجمهور العريض في شيء، فهذا الجمهور امتلأ بالقهر في السنوات الأخيرة من كل الأحزاب، وفكرة حراك الضرائب والعيش الكريم قد تفتح صفحات أخرى ستصل إلى الشرعية السياسية، وتدخل عوامل إقليمية وعالمية وتنقلب المقاعد ونصير بين حصارين؛ حصار على منظمة التحرير المتمردة على ترامب، وحصار على حماس التي ضاق بها الناس ذرعًا.
يا إلهي:
لا أريد أن أختم المقال بمقولاتي العبقرية هذه عن حماس والحراك، لكنّي مدين لعشرات الأصدقاء والصديقات من حماس ومن الإسلاميين، يغايرون ويفاجئون ويغردون ويكتبون مسارًا جديدًا في النقد الذاتي. اقرأ لهم بشغف، وافرح وامتلئ ثقة بهم وبقدرتهم على صناعة نبرة شبابية، ناقدة وديمقراطية وفارقة.
اقرأ/ي أيضًا:
5 نقاط على هامش حراك "بدنا نعيش" في غزة