03-فبراير-2019

عندما يجتمع وزراء الإعلام العرب في القاهرة، أو في تونس أو طهران، تكاد الأخبار تنفجر تألقًا فارغًا، ومديحًا بائسًا لكلاشيهات صارت أرخص من "الشيبس". فهناك "العمل العربي المشترك"، و"الإعلام العربي الموحد"، و"التعاون الإعلامي العربي والإسلامي". المذكرات والاتفاقيات والتفاهمات الخالية من أي فكرٍ إعلاميٍ حديث، التي تحول اجتماع السادة الوزراء إلى مجرد تمثيليةٍ بائسةٍ لممثلي بيوت حكمٍ بمفاهيم إعلامية تخفي آليات إفسادٍ لروح المواطنة، وتدفق المعلومات الحر، ومدونات السلوك وأخلاقيات وسائل الإعلام.

كانت نتيجة كأس آسيا لكرة القدم محفلاً لفشلنا الإعلامي العربي، لقد فضحت المباراة النهائية كل موروث الإعلام الرسمي العربي، ظهر البؤس الإعلامي ومن كل الأطراف بالقلم والورقة والمانشيت.

كانت نتيجة كأس آسيا لكرة القدم محفلاً لفشلنا الإعلامي العربي، لقد فضحت المباراة النهائية كل موروث الإعلام الرسمي العربي

كان يوم جمعة، جمعة العرب والمسلمين، لكنه تحول إلى يوم فرقة في الرأي العام، أطاحت فيه الصحف بالروح القومية، وتغنت فيه السوشال ميديا بالفاشيات والشعبويات، ومن شدة هزيمتنا تغنيا بالمنهزم في المباراة، ولو أن محررًا صحفيًا يابانيًا رأى عناوين الصحف العربية "العريقة" لأصابه الحَوَلُ من عدم ذكر نتيجة المباراة، ولكتب لحكومته مطالبًا بتجنيس بوذيين جدد قادمين من العام العربي.

اقرأ/ي أيضًا: أخلاقيات طائرات "درونز"

بالفعل كانت جمعةً كشفت كم نحن مزيفين وشعاريين في قوميتنا وعروبتنا وفكرنا السياسي، وكم أفسدت عقودٌ من السلطة الماضية هوياتنا السياسية وثقافتنا الإنسانية، وتحولنا إلى بشرٍ في دائرة الطرد المركزي عن الأمم الخلاقة والمبدعة والمفرحة.

فعندما تقول وسيلةٌ إعلاميةٌ عن دولةٍ عربيةٍ شقيقةٍ أنها "فريق الاحتلال"، هذا انهيارٌ إعلامي. وعندما تخجل صحيفةٌ من وضع اسم الفريق العربي الفائز بلقب البطولة، وتضع مانشيت الملحق الرياضي باسم اليابان الخاسرة، فهذا يعني أن حذاءً سياسيًا ثقيلاً داس على المحرر والمراسل ورئيس التحرير والموزع والمدير الإداري والمدير المالي في وسيلة الإعلام العربية.

وعندما يكتب كاتبٌ شهيرٌ مقالته في صفحة الرأي في الجريدة، وفي الـ 700 كلمة لا يوجد أي لفظ يحمل اسمًا لدولة عربية معنية بالقضية التي يكتب عنها، فهذا هو أعلى أنواع خيانة الذات، أو خيانة المجموعة لنفسها.

عندما يتجند إعلامٌ عربيٌ في القطاع الخاص، ويتحول إلى إذاعاتٍ وتلفزيونات فاشيةٍ وعنصريةٍ ضد خصوم الممول، فهذا يجب أن يجعلنا نقبل بالكرسي الأخير في التقارير الدولية عن حرية الرأي والتعبير.

بالحق فشلنا، فشلنا كأعلامٍ رسميٍ وخاصٍ وأهليٍ وشبكات تواصل اجتماعي، حولنا الأجيال العربية إلى كائناتٍ تائهةٍ في زمن تائه.

فشلنا كأعلامٍ رسميٍ وخاصٍ وأهليٍ وشبكات تواصل اجتماعي، حولنا الأجيال العربية إلى كائناتٍ تائهةٍ في زمن تائه

لم أتخيل يومًا أن تقع الأجيال الجديدة المتعلمة والراقية في شرك بهاليل الإعلام التابع، وتابعت بجنونٍ صفحات التواصل الاجتماعي لأصل إلى "بوست" عاقل أو تغريدةٍ موحدة لله، أو للسادة العرب والمسلمين، فلم أجد.

اقرأ/ي أيضًا: في غزة.. للجرائد استعمالات متعددة إلا القراءة

الفضائيات الكبيرة، الإمبراطوريات العربية الإعلامية المترامية الميزانيات، اختنقت بأن تذكر اسم الفريق الفائز، عجزت عن مناقشة هذا الخراب، حتى الإعلاميين الكبار والمشهود لهم صمتوا.

حادثة كأس آسيا هذه كشفتنا، كشفت أطوارًا من اللؤم الإعلامي الحكومي العربي، أطوارًا من الإعلام التابع والأعمى، طوابق من اللامهنية. غرفٌ مزدحمة بوزراء ووكلاء ورؤساء تحرير وصحفيين تم إسكاتهم وإفسادهم. قاعاتٌ كاملةٌ من هزيمة فكرة تدفق المعلومات وحرية الرأي والتعبير وأخلاقيات مهنةٍ نبيلةٍ تشارك في صناعة الهوية والوطن أكثر من أكبر موازنةٍ حكوميةٍ على وجه الأرض.

سأتجنب الحديث عن الإعلام في الخليج أو بلاد الشام أو المغرب حتى أخفف من الهزات الارتدادية للهزيمة. سأتحدث عنا هنا فلسطين، لم يكن أحدٌ منا مضطرًا إلى محاربة الإمارات أو قطر أو البحرين أو عمان، لأنهم هناك كانوا بحاجة إلى عقلنا وعقلانيتنا، لا شعبويتنا الرخيصة ومحازبتنا غير الفاضلة.

كانوا يشبعوننا كلامًا فارغًا في البكالوريوس عن مواثيق الشرف الإعلامي العربي. كنا نتباهى أمام أصدقاءَ من أميركا اللاتينية وأفريقيا بمواثيق الطفولة والمرأة والإعلام في العالم العربي، وعندما كبرنا اكتشفنا كم كان الأمر هُراءً.

عندما كنا نلجأ إلى مدونات سلوك الصحفيين الأجانب لحل أزماتنا الصحفية، كانوا يذكروننا بـ"الخصوصية العربية"، و"الهوية المحلية للجمهور"، و"الدين الإسلامي الجامع"، و"اللغة العربية وأفعالها الخمسة"، فماذا أنتجنا غير حادثة نهاية كأس آسيا الإعلامية البائسة؟

يا إلهي! وزارات إعلام، ونقاباتٌ واتحاداتٌ ومجتمعٌ مدنيٌ إعلامي وجامعاتٌ وكلياتٌ، كُلّها لم ننتج شيئا! إننا في غرفة أخبارٍ مهزومة بلا هوية مهنية، وبلا أخلاق، ولا مواثيق معيارية لا محلية ولا عالمية، هكذا فراغٌ في فراغٍ في فراغ.


اقرأ/ي أيضًا: 

كومة مشاعر سياسية

محمد صلاح بديلاً للقضايا الكبرى

في المواطن اللاسياسي