مقال رأي |
المتابع لتفاعلات مقتل الناشط والمعارض السياسي نزار بنات على يد أجهزة الأمن الفلسطينية خلال حادثة اعتقاله يجد أصنافًا من ضعف التفاعل الحقيقي مع القضية مرده بالدرجة الأولى إلى تنامي ما يمكن تسميته "بالخلاص الفردي" وإن اختلفت توجهات ومشارب المتفاعلين زيادة ونقصانًا.
من التفاعلات على مواقع التواصل ما تراها خجولة تستخدم ألفاظًا مواربة، تستبطن الرفض ولا تظهره خشية من دفع الثمن مستقبلًا
فالملاحظ أن نسبة التفاعل على مواقع التواصل الاجتماعي لا تعكس مستوى التفاعل على أرض الميدان، وهنا تبرز حالة التناقض بين ما نؤمن به وننظّر له عبر هذه المواقع وما نمارسه حقًا في الواقع. ولسان حالنا يقول "بيد عمرو لا بيدي".
حتى هذه التفاعلات على مواقع التواصل تراها خجولة تستخدم ألفاظًا مواربة، تستبطن الرفض ولا تظهره خشية من دفع الثمن مستقبلًا، وهو ما يشي بحالة الرغبة الشديدة في قطف الثمار دون فلاحة.
ربما تنامت حالة الفردية هذه وتراجع نفس التضحية في سبيل المجموع بسياسات صاغتها السلطة الفلسطينية بإيحاء من الدول الداعمة لها عبر سنوات من الدفع باتجاه التنمية الفردية كحل لأزمة النمو الاقتصادي البطيء أو الضعيف على وقع الانتفاضة الثانية ونتائج انتخابات 2006 وتداعياتها من جهة، والتخلص من رغبات البعض في المواجهة مع المحتل كنوع من التضحية في سبيل المجموع من جهة أخرى.
تعود جذور هذه السياسة إلى عرّاب النمو الاقتصادي الدكتور سلام فياض الذي تولى عملية بناء مؤسسات السلطة بعد الانتفاضة الثانية، وصاغ سياساتها وفقًا لما خبره في المؤسسات الاقتصادية العالمية، وبما يتوافق مع رغبات الداعمين في أمريكا وأوروبا.
فقد سار فياض على قاعدة أنّ الأمن يولّد الاستقرار، وبالتالي الازدهار الاقتصادي. كما بنى خططه الاقتصادية على الاستراتيجية الرأسمالية "مزيد من الاستهلاك يعني مزيدًا من النمو". وهكذا امتلكت فئة لا بأس بها من فلسطينيي الضفة الغربية السيارات الفارهة التي لم يسددوا من ثمنها إلا النزر اليسير، واقترضوا من البنوك ليراكموا المزيد من أكوام الاسمنت دون شعور حقيقي بأنهم يغرقون في الدين المزمن الذي يكبل أفواههم كما يكبل أيديهم.
ومع مرور السنوات تعززت الفكرة لدى الكثيرين حين تلاقت هذه الرؤية -عن قصد أو بدون قصد- مع الطرح الذي تتبناه حكومة الاحتلال وعلى رأسها بنيامين نتنياهو صاحب نظرية السلام الاقتصادي، والتي طرحها مبكرًا في عام 1996 وتسنّى له تطبيقها حين تولى رئاسة الحكومة على مدار 12 عامًا.
في هذا السياق تحديدًا يمكن فهم حالة التخوّف التي يبديها البعض من التعبير عن رأيه على صفحات مواقع التواصل، خوفًا من أن يُقال من عمله أو يضيّق عليه في رزقه أو بشكل أكثر قسوة استدعاؤه للمساءلة أو السجن في الحالات الأكثر شدة. وكذا يمكن فهم توجهات البعض لجهة عدم الاكتراث بالشؤون العامة والانخراط حد الأنانية في الشؤون الخاصة، نظرًا للانشغال في جمع الأموال أو تحقيق الأهداف الشخصية علميًا أو مهنيًا أو اقتصاديًا، وبالطبع هذه المخاوف حقيقية، وربما متفهمة في ظل ضغوط الحياة وتضاؤل الآمال في تحقيق إنجازات سياسية على مستوى المشروع الوطني وانسياق القوى السياسية في المخطط الإسرائيلي فيما تبقى من حلم فلسطيني.
ولكن في الجهة المقابلة لا يمكن إنكار وجود تأييد لما أقدمت عليه أجهزة الأمن بحق المعارض نزار بنات تنطلق من رؤى مختلفة، بعضها يرجع إلى الانتماء السياسي للحزب الحاكم، وآخر متسلق يسعى لتحقيق مكاسب مادية، وهذان المنطلقان لا يخرجان عن فكرة الفردية وإن تدثرت برداء الانتماء الجمعي.
فالانتماء السياسي لا بد وأن ينطلق من التأييد لما يمثله التيار السياسي من مبادئ وأفكار، لكن ذلك يستدعي من منتمي أي تيار أن يتخذوا موقفًا من أي اختراق لهذه المبادئ والأفكار، وإلا فيصبح هذا الانتماء تعصّبًا حزبيًا، وهو سلوك ينطلق من دوافع فردية وإن كان يبدو أنه سلوك جمعي.
وفي الحالة الأخرى لا نحتاج إلى كثير شرح عن من يسعون وراء المصالح الذاتية التي توفرها حالة "التسحيج" من تحقيق مكاسب مادية أو معنوية، فهؤلاء بالأساس منطلقون من حالة فردية مفرطة على حساب كل المبادئ والأخلاق وحتى القيم.
ومن الموضوعية بمكان الإشارة في هذا السياق إلى وجود ثلة من الشعب همّه الأساسي بقاء التناقض الوحيد مع الاحتلال، وهم مدفوعون بتخوفات من تعمّق الانقسام بما يجعل صافي الربح في كفة الاحتلال، وهؤلاء مع نبل غايتهم تجد لديهم تحيّزات مسبقة تظهر في ثنايا الخطاب الإعلامي وفلتات اللسان، لكن يبقى موقفهم أكثر تقدمًا عن المتقاعسين في كل الأطراف، وهم استثناء على قاعدة هذا النص.
والاستثناء الآخر الذي يضيء شمعة في آخر هذا النفق ظهور حالات متقدمة في التضحية والفداء -كبلدة بيتا التي تقاتل وحيدة رغم وجود عشرات النماذج المشابهة التي تراقب فقط الاستيطان يقضم أراضيها- وبالتالي تحقق إنجازات حقيقية بما يشكل نموذجًا يمكن لكل راغب في حصاد التضحية الجمعية.
بقي أن نشير إلى أن هذه الحالة لا تنحصر في التفاعل المطلوب في قضية نزار بل يمكن رؤيتها في قضايا وأحداث مماثلة داخليا وبشكل محبط في التعامل مع الاحتلال.
اقرأ/ي أيضًا: