"غنّت فيروز ويا ليتها لم تغني" هكذا عبّر البعض عن خيبة أملهم مما قدّمته السيدة لهم بعد طول غياب. ولأن الموسيقى والغناء والفن بالمجمل مسألة ذوق شخصي فإنّه لا يحق لأحد محاسبة الناس على أذواقهم، وبالتالي فإن الجدل حول لماذا أحب البعض أغنية فيروز الجديدة (لمين) بينما اعتبرها آخرون لا تليق بها، سيأخذ منحىً معقدًا، لا يمكن فهمه إلّا بقراءة تعليقات الناس وسماع نقاشهم حول الأغنية وفهم الأسس التي بنوا عليها هذه الآراء.
من أحبّ الأغنية رأى فيها المستوى المطلوب من كلمات وألحان؟ أم أنّه أحبّها لأن من غنّتها هي فيروز، وماذا عن الذين خاب أملهم.. لماذا خاب؟
فهل من أحبّ الأغنية رأى فيها المستوى المطلوب من كلمات وألحان؟ أم أنّه أحبّها لأن من غنّتها هي فيروز، وهذا بالنسبة له يكفي لجعل أي أغنية جميلة؟ وماذا عن الذين خاب أملهم.. لماذا خاب؟
النوع المفضل من الحب عربيًا هو الحب غير المشروط اللامتناهي، الحب المليء بالعبارات الكبيرة والألقاب الرنانة، الحب الذي لا سؤال فيه ولا شك حتى لو توافرت كل المسببات لذلك، وهذا الحب لا يحتمل علامات الاستفهام ولا يطيقها، بل يكره بشدة كل من يثيرها، فهو حب عظيم لا ينتظر الأشياء الجميلة ليحيا، ولا تهمه الأخبار السيئة، بل إنه أيضًا يرى في سوئها كل الحسن، لمجرد أنّها جاءت من المحبوب. وفي ظلال هذا الحب نعيش حياتنا بكل تفاصيلها، بدءًا بخياراتنا الموسيقية مرورًا بعلاقاتنا العاطفية وصولًا إلى أفكارنا الدينية وانتماءاتنا الحزبية. لن تجد سببًا لكل مصائبنا سوى هذا الحب!
في تسجيل صوتي بعنوان "نكسة الإعلام العربي في حرب 67" يقرأ علينا الشاعر الفلسطيني سلطان القيسي مجموعة حقائق تشير إلى تزييف الإعلام العربي لوقائع المعارك التي كانت تخوضها الجيوش العربية ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي، وكيف غرر الإعلام بالشعوب العربيّة عبر بيانات عسكرية تحمل كلمات النصر وأغانٍ وطنية تثير الحماسة، وأقنعهم بقرب النصر بينما كان جيش الاحتلال ينجح بتنفيذ خططه بدقة.
جاء في التسجيل: "كانت أخبار الإذاعة من القاهرة تتحدث عن انتصارات ومقاومة شرسة للعدوان، وبالتالي كان من الطبيعي أن يحتفل المصريون في شوارع القاهرة ويهتفوا: تسقط تسقط إسرائيل! لكن الحقيقة كانت مختلفة تمامًا، ففي الوقت الذي أعلنت فيه إذاعة صوت العرب عن إسقاط 44 طائرة إسرائيلية، كان قائد سلاح الجوّ الإسرائيلي "موتي هود" يقول لـ "اسحاق رابين": لم يعد يوجد سلاح جوي مصري".
كثيرون لا يزالون متمسّكين برواية الإعلام العربي للنصر عام 67، ويتغنون بها رغم الخسارة، هذا التمسُّك يأتي على شكل تقديس مستمر لزعماء تخبرنا الكثير من الحقائق أنهم ليسوا أبطالًا كما رُوِّج لهم، وأنّ الحالة التي كانت تعيشها بلادهم من قمع للحريات واضطهاد سياسي واستفراد بالسلطة وفساد إداريّ، لا تتوافق مع شعارات الحرية والكرامة الإنسانية التي ارتبط ذكرها بهؤلاء الزعماء، فهل هؤلاء مجرّد طغاة يملكون الكاريزما ويجيدون لغة الحب التي ترتاح لها الشعوب العربية وتصدقها؟!
يستخدم الناس باللغة العامية كلمة "متغيّر" ليعبروا فيها عن خيبة أملهم من شخص ما، وفي حالات الخصام وما يليها من لوم وعتاب بين الأهل والأحباب، فإن الكثيرين يختارون أن يفسروا سبب المشاكل أو الجفاء في العلاقة بأنّ الطرف الأخر "متغيّر" وبهذا أصبحت كلمة التغيير وكل مشتقاتها ذات دلالة سلبية على الأغلب، ويبدو هذا مفهومًا في مجتمعات ترتاح لأفكارها القديمة التي تُحبّها مهما بلغت من الخطأ، على أن تواجهها بصراحة وتبدلها بأفكار جديدة قد تشبه الحقيقة أكثر، فالوفاء في علاقة الحب هنا يتضمن تجاهل كل مؤشرات الخطأ، والبقاء على العهد مهما بدا هذا العهد مزيفًا أو غير منطقي كلما نظرت إليه عن قرب.
عودة إلى فيروز التي نحب من أغانيها أكثر بكثير مما قد لا نحب، وباسم الحب وواجبه سنخبرك بحقنا بأن لا نحب، نعتذر منك عن إقحامك في هذا المقال، فما كان من الضروريّ ذكرُكِ هُنا ونحن نتحدث عن معضلاتنا الفكرية التي لا تنتهي، والتي تجرنا من حرب إلى حرب، ومن خسارة إلى أخرى دون أن ندرك لماذا نهوي إلى القاع باستمرار، رغم أننا ممتلئون بالحب، وحقًّا لم نتغيّر!
اقرأ/ي أيضًا: