مقال رأي |
نكمل غنى وحلا وأنا، في هذا الوقت (10/3/2020)، خمسة وأربعين يومًا في الحجر الصحي في منزلنا بالعاصمة الصينية بكين.
الحجر المنزلي هذا، فرضناه على أنفسنا طواعية، لإيماننا بأن الوقاية خير من العلاج، أولًا. وأسوة بملايين الصينيين الذين التزموا بتعليمات حكومتهم، ثانيًا.
عائلة فلسطينية تعيش في بكين، تحكي يوميّات حياتها في العزل الذاتيّ للوقاية من فايروس كورونا
والحجر في اللغة، هو العزل. وهدفه الحدّ من نقل المرض المعدي ونشره. وقد تبدو فكرته مؤرّقة، فلا أنفاس لأولاد أرهقهم التعب بعد ركض في الساحات، ولا مدارس تزدحم بالطلبة، ولا طوابير أمام محلات المخبوزات صباحًا. لكنّه –باعتقادي- الخطوة الأولى لمحاولة وقايتك وأحبتك، من خطر انتقال المرض الجديد الناتج عن فايروس (كورونا). والذي يجب أن يكون –حسب الخبراء- مصحوبًا بإجراءات مساندة، أهمّها المحافظة على نظافة الجسم خاصة اليدين، وعدم لمس الأسطح الخارجية، والعمل على تعقيم المنزل وتهويته.
اقرأ/ي أيضًا: كيف تدخل في "العزل الذاتي" لمواجهة فيروس كورونا؟
الحجر أمرٌ صعب جدًا، خاصة للعائلات التي تضمّ أطفالًا أو كبارًا في العمر أو مصابين بأمراض مختلفة. فالأطفال مثلًا، بطبيعتهم يتحركون، ويلهون، ويخرجون ويدخلون ولا يحبون من أحد أمرًا ولا نهيًا.
وكبار العمر، يحتاجون صحبة تؤنس وحدتهم وشيبتهم، يضحكون معها، ويسردون القصص والحكايا. أمّا المرضى، الذين يعانون من آلام مختلفة في أجسادهم، فيحتاجون رعاية خاصة، وكتفًا يسندهم، وأحدًا يقضي لهم حوائجهم.
يوميات عائلية في الحجر..
صباحًا، باتت جملة (شو الأخبار؟ شو الجديد؟) تسبق عبارات التحية. وأصبح جهاز قياس الحرارة أهم حاجة نقتنيها في بيتنا الصغير، على الإطلاق! ولاحقًا بات الحاسوب هو السبيل الوحيد الذي تلتقي به طفلتنا الكبيرة حلا (سبعة أعوام)، بمعلميها وأصدقائها، لنهل أكبر قدر من المعرفة والمعلومات.
أما طفلتنا الأخرى غنى (عامان)، فتحمل لي حذاءها الأبيض الجميل، في اليوم، عشر مرات ويزيد. تتجه نحوي، وتشد ملابسي (ماما باي.. ماما سيارة يللا).
في مستهل أيام الحجر، كنت أنظر لها بعين الشفقة، لكني مع مرور الأسبوع الأول انتابني شعور بالقوة، فلا يجرؤ ضعيف على الحجر، ولا يفعل ذلك إلا قادر وواثق بنفسه ومَن حوله.
مع مرور الأسبوع الأول في الحجر انتابني شعور بالقوة، فلا يجرؤ ضعيف على الحجر
صرت أمسح على شعرها الجميل، في كل مرة، وأحملها لحضني، وأذهب صوب النافذة الكبيرة التي تغطي واجهة كاملة في الصالة، وأنادي بأعلى صوتي (يا عصفورتنا الجميلة.. تعالي عند غنونة..). حتى باتت هذه العبارة "كلمة السر" التي نستخدمها في عائلتنا، لرفع شعار القوة، وزيادة الأنس بيننا، كلما "ضعفت" معنويات أحدنا!
أما زوجي، الوحيد الذي يخرج من البيت ويتنفس هواء الخارج، نحصّنه قبل الخروج وبعد الدخول قبل عمله بساعة، تبدأ الأجواء بالتأهب.
- (بعينك الله جهزيلي الشنطة والكمامات والقفازات وعلبة المعقم والمناديل وكل شي).
- يللا.. بس لا تنسى المناديل المبللة عشان تمسك المفاتيح وتفتح باب المصعد.
لم يعد هناك متّسع لعبارات التذكير بضرورة شراء أغراض للبيت، أو الاتصال على صغيرتيّ "بالفيديو" خلال فسحة زوجي بالعمل. فثمة توصيات جديدة دخلت النطاق.
- الله معك وما تنسى ترن علينا قبل لترجع بربع ساعة عشان أجهز المكوى!
نعم، "مكوى البخار"، هذه أداة تعيش الآن عصرها الذهبي في منزلنا، فبعد أن كنت أركنها بمكان غير واضح في المخزن وراء الغسالة، حيث لا أستخدمها إلا مرتين شهريًا. بتنا اليوم نخصص لها مكانًا في زاوية كبيرة، أمام باب المنزل الرئيس، موصولة بالكهرباء، لا أحد يجرؤ على استعمال مقبسها الخاص. وذلك بعد أن أوصى خبراء، بإمكانية استخدام الحرارة لقتل الفيروسات التي قد تكون عالقة على الملابس.
كيف ستكون الحياة في البيت؟ دون عمل ولا مدارس ولا أسواق ولا حدائق؟! كيف ستمر أيام دون أن نتمشى؟! كيف لنا أن نصمد؟!
يعود زوجي من العمل، ويرمي كل ما في يديه أو جيابه من مفاتيح وجهاز نقال وغيرها، في قفص بلاستيكي، ويقوم بتعقيمها هي وملابسه جميعًا.
ثم يبدأ بإتلاف كمامتيه اللتين كان يرتديهما مع القفازات، بطيّها وإغلاقها بكيسين على الأقل، حسب التعليمات التي وردتنا.
أمّا أنا، فقد فجعت عندما سمعت بفكرة الحجر، صدقًا، في البداية: كيف ستكون الحياة في البيت؟! هكذا دون عمل ولا مدارس ولا أسواق ولا حدائق؟! كيف ستمر أيام دون أن نتمشى في ساحات الحي؟! كيف لنا أن نصمد؟! أخاطب نفسي.
- سأفعلها!
- ما بقدر.. صعب
- ليش لا، ولا لا سمح الله نزور مستشفيات وهات دكاترة وخذ وجيب
- والله بصيبني إحباط
أخيرًا، راهنت نفسي أن أغلّب عقلي على قلبي؛ فطالما دعوت الله أن يكون هذا العام –كأمنيتي الدائمة- فرصة للتغلب على الصعاب، كيفما كانت.
وبدأ مشوار الحجر، في أول شهر من السنة.
اقرأ/ي أيضًا: آنجل- كورونا.. شهادات من داخل أشهر فندق في فلسطين
الحجر الصحي.. الدرجة الأولى في سلم السلامة
في الأسبوع الأول، كان التحدي قاسيًا، وكدت أفشل.. في النهار، أقلل من اتصالي مع الأهل لتفادي أي محاولات للتراجع. وحتى لا أري دموع أمي وهي تقنعني بالعودة للبلاد. فلا أطيق هذا الموقف ولا أجرؤ على مشاهدته أصلًا. وفي الليل، تتبلل وسادتي بدموع لا أعلم سببها لهذه اللحظة!
مرت الأيام طويلة، والمزاج فيها متقلب، والوحدة سيدة الموقف
مرت الأيام طويلة، والمزاج فيها متقلب، والوحدة سيدة الموقف. حتى والدي الذي يسكن على بعد كيلو متر واحد فقط، من بيتنا، لم يعد بإمكاني رؤيته "حتى اللحظة"؛ فالمجمّعات السكنية باتت تمنع غير ساكنيها من دخولها. وأختي الصغيرة، التي كانت تدرس اللغة الصينية، هنا بالجامعة، حُرِمتُ رؤيتها لذات السبب. حتى أنها قررت العودة –مؤقتًا- للبلاد، ولم أستطع وداعها أو طبع قبلة على خدها. يا له من يوم صعب!
بحمد الله، سرعان ما تخطينا الأمر، واستطعنا أن نتأقلم.
لقد تسبب انتشار المرض الجديد بعمل إضافي يتطلّب جهدًا كبيرًا، مني، يتمثل بمضاعفة وقت تنظيف البيت خصوصًا الأسطح المكشوفة. وقد خصصنا ساعتين يوميًا، واحدة صباحًا وأخرى مساءً، لتهوية المنزل والفراش؛ بناءً على طلب وحدات الطوارئ التابعة للحي، التي قامت بدورها، بتوزيع منشورات تذكّر بذلك، وضعتها لنا على باب البيت مرفقة بترجمة باللغة الإنجليزية.
تسبب انتشار المرض الجديد بعمل إضافي يتطلّب جهدًا كبيرًا
وبدأنا بتعقيم كل شاردة وواردة، تدخل باب البيت، بدءًا من الأغراض التموينية والخضار والفواكه وليس انتهاءً بالأكياس البلاستيكية الصغيرة. فقد نشرت لنا الجهات المختصّة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بيانات تدعو فيها لتكثيف عمليات النظافة المنزلية، خاصة الطعام. وشرعتْ على إثر ذلك، العائلات ومنها أسرتنا، بتعريض الأكياس التي نشتري بها المأكولات، لدرجات حرارة مرتفعة -تزيد على مئة- مباشرة دخولها البيت، أو رشّها بمواد التعقيم، ومن ثم غسل كل ما فيها بالماء جيدًا.
والحجر في بكين، تشوبه معيقات إضافية، أهمّها طبيعة الشقق حيث لا تتجاوز مساحة البيت 70 مترًا مربعًا غالبًا، ما يسبب صعوبة في القيام بالعديد من النشاطات البدنية فيها. لكنّه يتحتم عليّ أن أبحث عن فعاليات متعددة، لنملأ وقتنا خلال الحجر.
في الحجر سأكون أمًا، بطبيعة الحال، لكني سأمارس دور المعلمة والأخت والطبيبة والصديقة أحيانًا، وقد ألجأ لعمل (لجان الإصلاح) مرات أخرى. فالمهمات صعبة، والتأهب موجود. تارة كنّا نحمل معدات الكعك في المطبخ ونخترع وصفة سويًا.
ويومًا نبعثر صورنا القديمة منذ الصغر، ونتأمل الأيام الجميلة، ونَعِد طفلتينا بأوقات أحلى مستقبلًا، وقتها تدمع عيني خفيةً وأرقب زوجي، ينظر لي خلسة، ويهمس: "كوني قوية.. رح تجي هاي الأيام"، فترتد لي نصف روحي وأعيش بقية اليوم على الأمل.
وساعات نتفق أن نجعل من ذاك النهار، يومًا خاصًا لنتحدث اللغات، فنتكلم العربية تارة ونتسابق بكتابة كلمات بالإنجليزية مرة أخرى، وينتهي المطاف عندما تفوز حلا بسرد قصة تحمل أكبر عدد من الجمل باللغة الصينية!
الإيمان والأمل، والالتزام والعمل بالتعليمات الصادرة عن الجهات المسؤولة والرسمية، سيجعل من هذه الأيام ذكرى
بعد ذلك بأيام، نقرر أن نجلس في أسِرّتنا، ونراهن بعضنا من سيسبق الآخر بعدد مرات الاستغفار، لتباهتنا غنى بفتح الخزانة، وإحضار القرآن الكريم، تتصفحه و"تدندن" بما أوتيت من قوة. لا أدري لعلها فهمت ما قَصَدْنا!
بعد ذلك بأيام، كما كل صباح، قمنا بتمارين الاسترخاء واللياقة البدنية، ثم أعددنا العدة أن نجهز ملابس للدمى. وبدأت الإبر والخيطان الملونة تتبعثر في أرجاء المنزل، وشرعت حلا وغنى، في خصام على الفساتين التي لم أنسجها بعد!
كثيرًا ما كانت تصل عائلتنا اتصالات ورسائل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، من أناس هنا وهناك، وتدغدغ مشاعرنا متابعتهم لنا ودعواتهم الصادقة التي ترافقنا طوال الوقت، فكان عليّ لزامًا أن أرد لهم الجميل بهذه السطور، لعل أحدهم يجد هنا فائدة أو تشجيعًا.
علاقتي بالسماء قوية، قوية جدًا، أحبها، وأرى بها صفاء وحنانًا. تذكرني بأمي المعطاءة البعيدة عني مسافة، وببلدي الحبيب رغم الحدود. عندما أنظر لها وأرى غيومها الجميلة أشعر بالأمان، وقد أنسى حزني بلحظة. هذه السماء التي عزّ عليّ رؤيتها خلال الأيام الماضية، وتفحصتها من بعيد، من خلف النوافذ، افتقدتها كثيرًا. لكن قناعتي بأن الإيمان والأمل، والالتزام والعمل بالتعليمات الصادرة عن الجهات المسؤولة والرسمية، سيجعل من هذه الأيام ذكرى.
اقرأ/ي أيضًا:
فلسطين في عيون أهل بكين.. يا للهول!