هناك في معتقل "رامون" جنوب فلسطين المحتلة، يتواجد الأسير فادي نايفة. هناك لأن المكان بعيد، لأن الاحتلال خلق في ذهننا بعد المسافات بين المناطق والمدن في فلسطين التاريخية بسبب الحواجز والحدود والسجون أيضًا. وفي الرابع من شباط/ فبراير صادف مرور 20 سنة على اعتقال فادي، الذي تبقّى 6 سنوات على حريته ولقاءه مدينته طولكرم.
في الرابع من شباط/ فبراير صادف مرور 20 سنة على اعتقال فادي، الذي تبقّى 6 سنوات على حريته..
البداية.. الأصل طولكرم والسكن الإجباري "رامون"
البداية من طولكرم والنهاية إليها، والتواجد الإجباري في "رامون" جنوب فلسطين، حيث المكان البعيد عن الأهل، لذلك الزيارات غير منتظمة بسبب طول المسافة وكبر العمر.
تزامن إعداد هذه المادة مع تاريخ اعتقال فادي نايفة (أبو سلطان) في الرابع من شباط/ فبراير، وسنبدأ المقالة بتعريف عنه، فهو من مواليد 25 آذار/ مارس 1984، وحصل خلال تواجده في معتقلات الاحتلال على درجتي البكالوريوس، الأولى في العلوم السياسية من جامعة القدس والثانية في التاريخ من جامعة الأقصى، ويطمح الآن إلى الانتهاء من درجة الماجستير قبل تحرره من السجون.
شارك فادي في الانتفاضة الثانية وبعد مقارعة للاحتلال الإسرائيلي في مدينة طولكرم ومخيمها وكذلك في مدينة نابلس وبلدتها القديمة مع رفاقه الذين منهم من استشهد أو اعتقل –منهم شقيقه محمد نايفة المحكوم بالسجن المؤبد 14 مرةً- تمت محاصرته في بيت أخته في طولكرم واعتقاله.
كان السؤال المسيطر في ذهني خلال إعداد المادة هو الروتين، فكرة الروتين أو التكرار وكيف يمكن كسره داخل المعتقل، والأمر يتم بالنسبة لفادي من خلال التنقل إلى سجون أخرى. فهو يرغب بالذهاب إلى معتقلات الشمال تحديدًا إلى "مجدو"، لأنه يتواجد في هذه المعتقلات الأسرى الشباب المحكوم عليهم أحكامًا خفيفة، فمن خلالهم يعرف الجديد خارج هذه الجدران، ويخلق التواصل معهم لديه إحساسًا بالأشياء الخارجية. وربما يكسر الروتين بتغيير البرش مثلًا.
كيف يكسر الأسير، الروتين داخل سجنه؟ أمّا عن الذاكرة في الأسر، فلها وظيفة مضاعفة!
لم ينهِ فادي بعد مرحلة الماجستير وذلك بسبب عدم تواجده في قسم واحد مع الأسير مروان البرغوثي، حيث يشترط تواجدهما في ذات القسم كونه هو المشرف المباشر على طلاب الماجستير، وذلك من باب الأمانة الأكاديمية.
مرحلة التحقيق الأولى كانت في سجن عسقلان واستمرت 51 يومًا، مرحلة يزداد فيها منسوب الوعي للأسير بسبب ممارسته الفعلية لكل معاني الصمود والصبر والأمل.
يحاول المحقق أن يركّز على كل معاني الإحباط والانكسار التي تؤثر على نفسية الأسير في المستقبل من خلال نظريات علم النفس التي يستخدمونها، بهدف كسر الأسير وتجريده من أي انتماء للوطن من البداية للوصول به إلى عدم الثقة بنفسه ومحيطه.
شهد عام 2003- 2004 سياسة التفتيش العاري للأسرى وكثرة الاعتداء عليهم بالضرب لكل من يرفض ذلك. و"أنا تعرضت للضرب المبرح أثناء نقلنا من سجن عسقلان إلى سجن شطة، كنّا حينها 36 أسيرًا وكان بانتظارنا نحو 100 سجان ومارسوا هذه السياسة، وتعرضنا للضرب بسبب رفض لها". هذه السياسة دفعت الأسرى للإضراب المفتوح عن الطعام عام 2004 استمر لمدة 19 يومًا، حينها كان فادي في سجن جلبوع، وكان واحدًا من بين عدد كبير من الأسرى، أصحاب تجربة أولى في الإضراب عن الطعام.
الإضراب يستخدم كسلاح أخير في القضايا الكبرى، عندما لا يكون هناك أفق للحلول، وهو اختياري وليس إجباريًا عند الفصائل. ويعتمد الأسير خلال الإضراب على الشمس لأخذ الفيتامين، ويتم أخذ مدعمات (حبوب) بعد حوالي 9 أيام على الإضراب.
بعد فترة قصيرة على انتهاء الإضراب، شهد فادي عملية قمع بشعة في قسم 1 بسجن جلبوع، تم خلالها استخدام غاز الفلفل –لأول مرة- والهراوات مع التركيز على رؤوس الأسرى، وهو واحد من بين أصعب الإصابات التي كانت كثيرة ومؤلمة في صفوف الأسرى.
خلال سنوات اعتقاله الـ20، تنقل فادي نايفة 27 مرةً منها كانت إجبارية وأخرى اختيارية بهدف كسر روتين غير مألوف بطريقة غير مألوفة أيضًا، أو للقاء شقيقه الأسير محمد نايفة.
أما الذاكرة في الأسر فلها وظيفة مضاعفة، وكأن عليها أن تبقى حية وحيوية بإمكانيات بسيطة مثل الممارسة المنتظمة للرياضة وتنظيم الغداء والمتابعة للأحداث والاهتمام بتطوير الذات. وبالنسبة لوضعه الصحي، فهو يعاني فقط من القرحة ومشاكل في القولون.
"رامون"... أمل التحرر يحلق في السماء والغرفة
شهد الأسير فادي نايفة ثلاث عمليات تبادل بين المقاومة اللبنانية والفلسطينية من جهة وسلطات الاحتلال من جهة أخرى. كان الأمل دائمًا يحلق في سماء ساحات السجون، بأن يكون لكل أسير نصيب منه.
كانت النقطة الأصعب عندما تم الإعلان عن صفقة "وفاء الأحرار" عام 2011، التي تحرر فيها 11027 أسيرًا وأسيرة، منهم 50 أسيرًا من القسم (كان فيه 120 أسيرًا) الذي كان يتواجد فيه فادي في سجن رامون. و"من غرفتي وحدها تحرر 5 أسرى، وبقيت أنا وأسيرين اثنين".
إضراب 2012... إنهاء العزل
معاقبة الأسرى بسياسة العزل الانفرادي إلى جانب حرمان أسرى غزة من الزيارات، دفع بجزء كبير من الأسرى إلى خوض إضراب عن الطعام استمر 28 يومًا وحقق إنجازات تاريخية بإخراج معظم الأسرى من العزل الانفرادي، والسماح لأسرى غزة بزيارة ذويهم. هذا الأمر أعاد الثقة للأسرى بأنهم قادرون على خوض المعارك وتحقيق الإنجازات والنصر من جديد. وخلق هذا الإضراب حالةً من الاستقرار في السجون لم تستمر طويلًا.
تغيّرت الأحوال في 2014 مع عملية خطف المستوطنين الثلاثة في الخليل والعدوان على قطاع غزة، من خلال تقليص ساعات الفورة، وسحب بعض قنوات التلفاز لتصبح ثلاث، وزيادة أجهزة التشويش في الأقسام، وسحب إنجاز زيارة أهل غزة لأبنائها الأسرى.
التعليم.. حرب من أجل الشهادة وعنف في المكتبة
خاض الأسير فادي نايفة ورفاقه الأسرى حربًا من أجل التعليم والتحصيل الأكاديمي داخل السجون، لا سيما بعد منع حكومة الاحتلال التعليم في الجامعة العبرية المفتوحة عام 2010 والبحث عن خيارات أخرى. حيث تم منح الأسرى عام 2013 الدراسة في جامعة الأقصى في غزة وتخرج المئات منها بدرجة البكالوريوس. كما سمحت جامعة القدس (أبو ديس) للأسرى بدراسة بكالوريوس علوم سياسية، وكذلك الماجستير في الشؤون الإسرائيلية بإشراف الأسير مروان البرغوثي. سجن هدريم خرّج مئات الأسرى ومئات الأبحاث التي ساهمت في إثراء المكتبة الوطنية داخل السجون.
الإنجاز قوبل بالعنف، حيث هاجمت قوات الاحتلال قسم 3 بسجن هدريم في عام 2017 لمصادرة كافة الكتب والأوراق والدفاتر من غرف الأسرى، إلى جانب مصادرة 3500 كتاب من المكتبة التي كانت تحتوي ما يقارب 6000 كتاب. وتم منع الجلسات الثقافية في الساحة ومصادرة الكراسي، ومنع إدخال الكتب وقت الزيارة، لكن الأسرى صمموا على التواصل وقرروا الجلوس على الأرض حتى في الشتاء لإتمام الجلسات.
توتر 2018.. توصيات أردان
خرجت اللجنة التي شكلها وزير الأمن الداخلي جلعاد أردان في 2018 بمجموعة توصيات ضد الأسرى أهمها تقليل نسبة شراء اللحوم والخضروات، ومنع الخضار المجمدة والبدء بتركيب أجهزة تشويش حديثة، وسحب عشرات الأصناف من الكنتينا، فكان رد الأسرى بقيام جزء منهم بحل الهيئات التنظيمية في الأقسام وتقليل التمثيل وإغلاق باب الحوار مع مصلحة السجون.
وقد نجح الاحتلال بتركيب أجهزة تشويش في قسم 1 بسجن رامون وقسم 4 في النقب، وردًا على ذلك قام الأسرى بحرق قسم 1 في سجن رامون كاملةً، وطعن سجانين اثنين في القسم الآخر، وعلى إثر ذلك تدخلت المقاومة في غزة وقصفت منطقة الشارون، ما دفع برئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى وقف سياسة أردان وطرح حلول، وبناءً على ذلك تم تركيب الهاتف العمومي في هذه القسمين كأمر واقع.
في السنوات الأخيرة شهدت السجون حالة من عدم الاستقرار لا سيما بعد عملية نفق الحرية في سجن جلبوع في السادس من أيلول 2021. بدأت مصلحة السجون من جديد التفكير في التضييق على الأسرى، مثل منعهم من الخروج للفورة (ساحة القسم) لمدة أسبوع، وبعدها تم السماح لهم مع تقليص عدد الساعات، والبدء في نقل الأسرى وتحريكهم بين السجون بهدف خلق حالة من عدم الاستقرار في صفوفهم.
وبناءً على ذلك، قام الأسرى بإغلاق الأقسام وحل الهيئات التنظيمية وتصعيد الخطوات. ولأول مرة منذ سنوات طويلة تمت الوحدة بين كافة الفصائل لمواجهة الإجراءات الجديدة التي توقفت بعد 18 يومًا على بدئها.