"ومنّا عطاء الدم.
حبر جاف على ورق، مرشوق قهوة.
سجن عوفر".
بهذا الاختصار البسيط قدَّم الفنان الفلسطيني محمد العزيز عاطف لجمهوره واحدة من أكثر من ثلاثين لوحة أنتجها في سجون الاحتلال الإسرائيلي التي حاولت تغييبه لثمانية أشهر. وبه أعلن عن التقائه هذه اللوحات، وبه ابتدأ رحلته في إخبار قصته مع السجن والفن والوجود بينهما.
في غرفة رقم 14 في سجن عوفر، وبأدوات بسيطة جدًا، كثَّف محمد العزيز عاطف في لوحاتٍ منحازة لفلسطين الكاملة قصة حياة الفلسطيني وراء القضبان، وانتزاعه لاستمراره الحيّ رغم وجوده في منظومة السجن المجرّدة المصممة لقتل الوجود الفعَّال للفلسطيني المكبل في داخلها.
بقلم رصاص وآخر جاف، وقهوة رديئة الطعم، وورق أبيض كان الحصول عليه يمر بمخاضات طويلة، خطَّ ورسم محمد العزيز عاطف تأريخًا مبهرًا
بقلم رصاص وآخر جاف، وقهوة رديئة الطعم، وورق أبيض كان الحصول عليه يمر بمخاضات طويلة، خطَّ ورسم محمد العزيز عاطف تأريخًا مبهرًا لا لفلسطين المقاتلة فحسب، بل أيضًا لتناغم مقاتلي الحرية في سبيلها داخل السجن وقدرتهم الدائمة على التعالي فوق محدودية السجن والتجريد الذي يفرضه عليهم؛ ممارسين الإنتاج أفرادًا وجماعات.
هناك، في السجن، توحدَ فن محمد العزيز عاطف خطًا ورسمًا مع فنِّ رفاق السّجن في تطويع كل ما حولهم لمواصلة الحياة بروح عالية.
ويجد المتأمل في اللوحات الممهورة كافةً بـ"محمد العزيز عاطف/سجن عوفر" أن الحكايات وراء كل لوحة تحكي عن يوميات منحوتة بمشقة العناد الوجودي الذي يدفع ثمنه مقاتلو الحرية كما يصر على تسميتهم، في وجه سجانيهم الذين يفرضون تحكمهم على أدق تفاصيل الحياة، في سبيل إماتة هؤلاء المقاتلين، معنويًا قبل أن تكون إماتة جسدية.
يقول محمد العزيز عاطف لـ "الترا فلسطين"، إن الإبهار في الفن يأتي في مواطن كثيرة من السياق الذي يولد فيه هذا الفن؛ وبالتالي فهو في السجن خَلْق داخل مكان أوجده صانعه للإماتة، وتوقيف الحياة بقتل مؤقت للشخص، وبالتالي فإن الخلق في هذا السياق هو شيء يدعو للانبهار؛ عدا عن ما يمكن أن يتصف به العمل من قوة وحرفية ودقة عالية.
الحكايات وراء كل لوحة تحكي عن يوميات منحوتة بمشقة العناد الوجودي الذي يدفع ثمنه مقاتلو الحرية كما يصر على تسميتهم، في وجه سجانيهم الذين يفرضون تحكمهم على أدق تفاصيل الحياة
على مدار مئات الأيام والليالي، في عتمة الليل كان محمد العزيز عاطف يروِّض طاقته ويخلق جمالًا كثيف المعنى، مؤرِّخًا لفلسطين الثائرة، كما للثائرين الفياضين بالحُب لها، ولناسها. وإن كان "فنان المخيم" كما يسمي نفسه قد أخبر جمهوره عن عشرات اللوحات التي هربها من سجنه فإنه يطوي في قلبه عشرات اللوحات الأخريات التي تحكي بصورة استثنائية قصصًا لم يحكيها أحد، عن رجالٍ ثائرين يحملون في قلوبهم من الحُب أكثره تفوقًا واستثنائيةً متجليًا في فدائهم الجليل لا لمن يحبون فحسب، بل لكل أجيال فلسطين.
وهذا الإنتاج، بجماله وتدفقه الشعوري الغزير، شكَّل دائمًا بتلاقيه مع الموروث الإنتاجي الأدبي والفني للحركة الأسيرة قدرة متواصلة تنتصر به إرادة حرة على محاولات استهداف جوهر الإنسان الجمالي، وكل ما يبنى عليه من علاقات خارج الذات كما ذكرها الأسير وليد دقة في رسالته في عامه العشرين من الأسر.
بين كثافة المخيم وفراغ السجن:
في أزقة مخيم العروب شمال مدينة الخليل، نشأ محمد العزيز واكتشف منذ كان طفلًا يديه اللتان كانتا أداته لإطلاق فكره على الجدران، والأوراق، وبدأ رحلته كفنان قَلِقٍ كما يعرِّف نفسه، منحازًا لفكرة وهم، يطوِّع الأدوات من حوله، ليصنع قالبه الترويحي الخاص، ممارسًا به الثورة في الأساس، إلى أن يحسم الدم حرية الشعوب كما يؤكد دائمًا.
"لو دخلت السجن ولم أجد قلمًا، لحرقت بسكويت الشاي، وطوّعت تفحُّمه لأرسم" بهذه العبارة كثَّف محمد العزيز عاطف، رؤيته للفن كخوارزمية قادرة على الإتيان بجملة معقدة وكبيرة وتشكيلها بطريقة لافتة تصنع وجهة نظر واضحة، وفي هذه الصيرورة تكون الأدوات تحت عملية تطويع أكثر من كونها ما يتمحور حوله الفن.
وما بين كثافة المخيم التي عايشها وعي الفنان، وتجريد السجن الذي وجد نفسه في اشتباك معه، كان وعيه الإنساني في عودة إلى بداهات حياة الإنسان الأول. فالسجن؛ البيئة المحدودة الموجودات مهما كثرت مقابل بيئة الخارج ذات الطابع الحداثي المتدفق طوال الوقت بالتفاصيل والموجودات التي لا يسهل بل قد يستحيل حصرها، وبين هاتين البيئتين كان على محمد العزيز عاطف أن يخرج من معترك السجن كما دخله؛ حيًّا.
السجن فعل شيء يشبه ما فعلته الطبيعة في الإنسان القديم؛ فالأشياء المحسوسة من حوله محصورة
"السجن فعل شيء يشبه ما فعلته الطبيعة في الإنسان القديم؛ فالأشياء المحسوسة من حوله محصورة، وبهذا طعن في روح الإنسان، وقيمه والتعبير عنها، لكن هذا اليوم في سياق الحياة اليومية التي تملك فيها هاتفًا ذكيًا في يدك طوال اليوم يصبح مستحيلًا"، يقول محمد العزيز عاطف لـ "الترا فلسطين".
في ظل إيقاع السجن المعمول طوال الوقت على إبقائه خاويًا، يعود حوار البداهة، في سياق إصرار الفلسطيني على مواصلة وجوده وإن اختلفت تفاصيل التعبير عن هذا الوجود الذي يبقى دائماً مُنْتَزَعًا.
فالوقت الذي يمكن أن تذوب معالمه في جريان العالم الخارجي، يعود في السجن ليكون مُتَحَكَّمًا به على يد سجان يقنن ساعة إطفاء النور، والمكان الذي يمكن توسيعه دائمًا والتفاعل فيه يضيق حتى يصبح موضع الوقوف فقط في لحظة قمع، دون أن يدرك السجان في ذات اللحظة أن القمع ينحت في الوعي المقاتل مصطلحات جديدة تؤرخ لتواصل تجربته الثائرة.
وبهذا النحت العنيد يتفوق الفلسطيني المُنتزع قهرًا من سياق حياته المألوف إلى السجن، على القادم بملء إرادته للعمل "سجاناً" يتقاضى عليه أجرًا آخر الشهر.
"السجن يجعلك في وجود جلي، تواجه فيه كل يوم عدوك، وسؤال الـ "لماذا" الذي يطور مع كل تفاصيل حياتك إحساسًا بالكره والحقد، وعدم النسيان، ووقوفك على هذا الحد الفاصل يشبه الوقوف على الحد الفاصل بين الدنيا والآخرة لحظة الموت، لذا يصبح كل شيء جليًا وواضحًا. السجن مهم لكل فلسطيني متجه نحو أن يكون حرًا ومحررًا".
في نظر محمد العزيز عاطف، فإن لوحاته كانت تمرّد طاقته على سجّانه
في نظر محمد العزيز عاطف، فإن لوحاته كانت تمرّد طاقته على سجّانه، الذي وضعه في السجن ليقول له بأن طاقته لا قيمة لها ولا يطلبها شيء أو أحد فتقتله بمحاولة إشعاره أنه لا يمكن أن يكون.
"تتجلى البديهة والمروءة في السجن، فتفهم في تلك اللحظة الكثيفة بالتركيز الوطني أن هذا الاحتلال مدعاة حقيقة للسخرية. إنه يضع تجمّعًا هائلًا من الناس الثائرين في مكان واحد يواجهون سؤالًا واحدًا: لماذا أنا هنا؟ وفي إجابتهم لهذا السؤال يترسّخ الوعي بسبب وجودهم في هذا المكان: امتلاك أيديولوجيا وطنية، يريد بسببها الاحتلال ممارسة العقاب بحقهم"، يقول محمد العزيز عاطف.
الفنان الفلسطيني الذي لا يتوقف عن تفكيك ومناقشة كل شيء في سبيل ترسيخ الفهم وتحويل كل الأفكار الجذرية للوحات على جدران الشوارع أولًا وعلى جدران المنازل والمكاتب ثانيًا، لإبقاء الصورة واضحة وثابتة رغم كل الأدوات الضخمة التي تعمل سرًا وعلانيةً لطمس معالم قضيته الأولى والأسمى.
وفي تحديه الكبير، ورغم ابتعاده عن المخيم، لا يزال يستذكر بحنين وحب "محمد العزيز عاطف الطفل" الذي يصفه دومًا بأنه أكثر شخص يحبه، بكل ما يكتنز من ذكريات معه، وما يخبئ في "دار المخيم" من لوحات وألوان ومقتنيات يعود إليها بين حين وآخر يتفقدها بشوق المسافر، خالقًا أُلفة وطنٍ يجتهد أن يوحده برسوماته.
في فناء منزله في بيرزيت، لن تزوره إلا وتجده يحاور زائره عن فلسطين الواحدة والكاملة رغم أسى ما فعله اللجوء، وكثيرًا ما توحدت فلسطين في ذلك الفناء، بين يدي الفن الثائر، وثراء فكرة الثورة، والقهوة التي تعيد مركزة النقاش دومًا حول استثنائية الفداء، والفدائي، في فهمه السامي لإنسانيته وحريته، واستعداده المتفوق لتقديم الثمن العالي ببسالة حتى آخره.