منذ احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة، حرصت الدعاية الإسرائيلية الموجهة للفلسطينيين على تكرار مقولة "العنف الذي يمارسه الفلسطينيون يقود الحكومة والجمهور في إسرائيل نحو اليمين، فينخفض تأييدهم لتقديم تنازلات أو التوصل لتسوية، وذلك يبعد الفلسطينيين عن الاستقلال". مع مرور الزمن، صار هذا الادعاء قناعة راسخة عابرة للمعسكرات في "إسرائيل"، في سياق الجدل الداخلي، فاليمين يكررها، واليسار، والمركز، وأيضًا تبنّتها أطراف كثيرة من المجتمع الدولي. لكن هل هذا حقيقي؟
الترا فلسطين يُقدم لكم هذا التحليل المدعوم بمعطيات إسرائيلية تُبيّن توجهات الإسرائيليين تجاه التسوية السلمية، والظروف التي تُحددها.
ردّد الإسرائيليون منذ "النكسة" أن المقاومة تقود الحكومة والجمهور في إسرائيل نحو اليمين، حتى تبنّت أطراف دولية ذلك
خلال العقدين اللذين أعقبا النكسة، فرضت إسرائيل احتلالها بسهولة نسبيًا، وقد غاب عن العقل الجمعي الإسرائيلي والنقاش العام تقريبًا مسألة الدولة الفلسطينية أو الانسحاب، وكانت هذه المسائل محرمات لا يقترب منها أحد، وهذا يضع زعم "الهدوء يقربنا من السلام" في مأزق منطقي.
اقرأ/ي أيضًا: كيف تُدير إسرائيل حرب الأخبار المفبركة؟
في شهر حزيران/يونيو عام 1986، سجلت استطلاعات الرأي العام في إسرائيل ارتفاعًا في مستوى الرضا عن الوضع الاقتصادي، إذ اعتبر 30% من الإسرائيليين الوضع الاقتصادي لإسرائيل جيدًا، أو جيدًا جدًا، فيما رأى 28% أنه ليس جيدًا.
بعد اندلاع الانتفاضة الأولى في الثامن من كانون الأول/ديسمبر لعام 1987، طرأ انخفاض في مستوى رضا الإسرائيليين عن الوضع الاقتصادي، ثم وصل إلى أدنى درجاته في عام 1989، ففي الشهر الأول من عام 1988، كانت نسبة الإسرائيليين الذين يعتقدون أن الوضع الاقتصادي لـ إسرائيل جيد، 20%، بينما بلغ من يعتقدون عكس ذلك إلى 39%.
وعلى الرغم من تهديد وزير جيش الاحتلال إسحاق رابين أن يُنهي الانتفاضة و"يفرض الهدوء حتى لو كان ذلك مؤلمًا" وفق تعبيره، إلا أنه في شهر أيار/مايو من عام 1989، أعرب 9% فقط من الإسرائيليين عن اعتقادهم أن الوضع الاقتصادي جيد أو جيد جدًا، فيما أجاب 47% من المستطلعة آراؤهم أنهم يعتقدون أن وضع "إسرائيل" الاقتصادي ليس جيدًا، وبذلك يكون الفارق 38 نقطة.
يعقوب بيري، رئيس جهاز المخابرات الاسرائيلية "الشاباك"، قال في شهادة أدلى بها خلال فيلم "حرس البوابة" إن رابين أعرب عن الكثير من الشكوك حول نوايا عرفات. وأضاف، "رابين حتى يوم موته، لم يؤمن أنه بالإمكان التوصل لأيّ تسوية مع عرفات، لكنه كان يدرك أهمية البدء بالتقدّم في مسارٍ سياسي، بموازاة المسار العسكري والاستخباري".
سلوك رابين، تُفسره شهادة كارمي غيلون في الفيلم ذاته، وهو رئيس سابق لـ"الشاباك" أيضًا، إذ قال إن جيش الاحتلال كان يطالب أسبوعيًا بتجنيد المزيد من جنود الاحتياط للسيطرة على الأمن في الضفة الغربية وقطاع غزة، حتى وصل الأمر إلى استدعاء جنود الاحتياط لتأدية الخدمة العسكرية كل ثلاثة شهور. وأضاف، "هذا دمر رابين، لقد فكر بالثمن الاقتصادي والثمن التربوي، وكان ينتف ما تبقى من شعر على رأسه في كل جلسة نقاش".
رئيسان لـ "الشاباك": قوة الانتفاضة الأولى والضريبة التي دفعها الجيش دفعت رابين إلى التفاوض مع عرفات رغم أنه كان يشك في نواياه
تخلت إسرائيل عن اتفاق لندن 1987 المريح بالنسبة لها، والذي كانت ستُعيد بموجبه جزءًا من مسؤولية الضفة الغربية إلى الأردن، مع بقاء منظمة التحرير خارج السياق، لكنها بعد ست سنوات اعترفت بمنظمة التحرير ممثلاً للشعب الفلسطيني؛ ووافقت على عودة ياسر عرفات لغزة. ففي بداية الانتفاضة الأولى تحرك الجمهور في إسرائيل نحو اليمين، ولكن بعد أربعة أعوام من الإرهاق الناجم عن الانتفاضة، تحرك الجمهور في إسرائيل نحو اليسار.
اقرأ/ي أيضًا: كيف طوّرت إسرائيل صناعة السلاح؟
ويربط كثيرون في إسرائيل بين صعود حركات اليسار "السلام الآن"؛ وانتخاب إسحاق رابين رئيسًا للحكومة عام 1992، واستمرار الانتفاضة التي توقفت بعد التوقيع على اتفاق أوسلو عام 1993، ونجم عنها انسحاب إسرائيلي جزئي.
أما انتفاضة النفق، التي اندلعت خلال ولاية بنيامين نتنياهو الأولى في عام 1996، وأسفرت عن استشهاد حوالي 100 فلسطيني، ومصرع 17 جنديًا، فقد دفعت الرئيس الاميركي آنذاك بيل كلنتون إلى استدعاء عرفات ونتنياهو لقمة في واشنطن بحضور الملك حسين، قادت لوقف المواجهات، وعبَّدت الطريق لاتفاق الخليل الذي تم بموجبه تنفيذ انسحاب جيش الاحتلال من معظم أحياء المدينة.
تكررت الحالات السابقة بعد اندلاع الانتفاضة الثانية في شهر أيلول/سبتمبر من عام 2000، فقد توجه الإسرائيليون حينها نحو اليمين، واختاروا أرئيل شارون رئيسًا للوزراء خلفًا لإيهود باراك، لكنه لم يجد لاحقًا مفرًا من الانسحاب من قطاع غزة تفاديًا للهجمات المسلحة التي أرهقت جيشه وطاردت المستوطنين هناك.
ووفق استطلاع للرأي أُجرى قبيل اندلاع الانتفاضة الثانية، فإن 25% من الإسرائيليين أيدوا آنذاك الانسحاب من القدس العتيقة، وفرض نظام خاص على المسجد الأقصى، لكن في بداية شهر آذار/مارس عام 2002، لكن بعد اندلاع الانتفاضة أظهر استطلاع للرأي أن 44% من الإسرائيليين يوافقون على تقسيم القدس العتيقة، ووضع الأقصى تحت نظام حكم خاص.
بعد أسبوعين من هذا الاستطلاع، قبل انقضاء شهر آذار/مارس، نفذت المقاومة عمليات قوية أوقعت عددًا كبيرًا من القتلى، وقد أُطلق على هذا الشهر في إسرائيل "مارس الأسود"، حيث خسرت إسرائيل العدد الاكبر من القتلى خلال الانتفاضة الثانية، فقتل في الضفة أكثر من 30 جنديًا ومستوطنًا، وفي أراضي 48 قُتل 81 إسرائيليًا نتيجة 11 عملية فدائية.
قبل انتهاء "مارس الأسود"، أظهر استطلاع للرأي أن 55% من الإسرائيليين يؤيدون تقسيم القدس العتيقة، وفرض نظام خاص على الأقصى. في تلك الفترة تكبّدت إسرائيل خسائر اقتصادية بقيمة 5 مليارات دولار، أي ما يعادل نصف ميزانية الجيش، وما يفوق ميزانية قطاع التعليم. ولكن بعد عامين من ذلك، اختفت هذه الأغلبية تمامًا، وصارت الأغلبية ترفض تقسيم القدس العتيقة وفرض نظام خاص على الأقصى، رغم أن تراجع المقاومة نتيجة الاجتياحات والاغتيالات.
في السنوات "الدامية" للإسرائيليين، بين عامي 2002 - 2004، ارتفعت نسبة مؤيدي المفاوضات، لكنها انخفضت في سنوات الهدوء، بين عامي 2004 - 2010
وفي السنوات "الدامية" بالنسبة للإسرائيليين، أي بين عامي 2002 - 2004، ارتفعت نسبة مؤيدي المفاوضات مع الفلسطينيين، لكن هذه النسبة انخفضت بين عامي 2004 - 2010، رغم أن هذه المرحلة شهدت هدوءًا كبيرًا في الضفة الغربية.
اقرأ/ي أيضًا: كيف ستكون إسرائيل في مئويتها؟ نقاش إسرائيلي
في عام 2012، لم يُسجل - لأول مرة - سقوط أي قتيل إسرائيلي في الضفة الغربية بما فيها القدس منذ 40 عامًا. في ذلك العام أظهر تحليل معطيات "مؤشر السلام" - استطلاع دوري للجمهور الإسرائيلي - انخفاضًا حادًا في نسبة الإسرائيليين الذين يشعرون بأهمية الأجندة السياسية والأمنية لحكومتهم.
صحيح أن الثمن الذي دفعه الفلسطينيون في الانتفاضات أكبر بكثير من الثمن الذي دفعته إسرائيل، ولكنه كان مؤلمًا لدرجة كافية لإجبار الحكومة والجمهور في إسرائيل على تغيير سلوكهم، وهذه الخلاصة تنطبق على جبهات أخرى، حيث قبلت إسرائيل بعروض رفضتها في السابق، مثل الانسحاب من لبنان كنتيجة لأعمال المقاومة، وأبرمت اتفاق السلام مع مصر إثر سقوطها في حرب 1973.
بالإمكان تفسير سلوك الجمهور والحكومة في إسرائيل، بطريقة عقلانية على النحو التالي: اللاعبون العقلانيون يريدون جني الحد الأعلى من الأرباح، وتقليص الخسائر للحد الأدنى. في الانتفاضة الأولى والثانية، سهّلت شدة الألم والكلفة الباهظة على الإسرائيليين تغيير توجهاتهم.
وعندما تلاشى الألم، وانخفضت كُلفة الاحتلال مقابل ارتفاع الأرباح الناجمة عنه، أصبح استمرار الاحتلال خيارًا عقلانيًا بغض النظر عن الجانب الأخلاقي. ينطبق ذلك على الوضع السائد الآن في الضفة الغربية بما فيها القدس، إذ يفوق عدد قتلى حوادث السير الإسرائيليين عدد القتلى جراء عمليات المقاومة، فتذهب إسرائيل إلى اليمين، وتُمعن في الاستيطان والقتل، وتذهب أبعد فأبعد عن التسوية السلمية وخيار الدولتين.
اقرأ/ي أيضًا:
كيف غيرت إسرائيل وجه الحروب في العالم؟