عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (ضمن مشروع ترجمان) صدر مؤخرًا كتاب "فلسفة التنوير" للفيلسوف الألماني إرنست كاسيرر، من ترجمة أستاذ الأدب والنقد في جامعة بيرزيت إبراهيم أبو هشهش. ويعتبر الكتاب تأسيسيًا للاطلاع على فلسفة التنوير الأوروبية في القرن الثامن عشر، وفهمها.
بهذا الكتاب، يكون أبو هشهش قد ترجم 17 كتابًا في الأدب والفكر والسياسة، منها: "مذكرات مالته لوريدز بريغه" لريلكه، و"تعايش الثقافات- مشروع مضاد لهنتنغتون" لهارالد موللر، و"أسطورة الشرق رحلة استكشاف" لأندرياس بفلتش.
الترا فلسطين التقى الأكاديمي والمترجم إبراهيم أبو هشهش، وكان لنا معه هذا الحوار:
س: ما هي أهمية ترجمة كتاب "فلسفة التنوير" للقارئ العربي في عام 2018؟
- أعتقد أن هذا الكتاب مهم، وأن ترجمته قد تأخرت مدة طويلة جدًا، وأنه جاء في وقته المناسب تمامًا. نحن أحوج ما نكون في هذا الزمن إلى تفكير تنويري، خاصة في ظل صعود فكر مغلق، بل ظلامي أحيانًا، وما يرتبط بذلك من تعصب وعدم تقبلٍ للآخر، وما ينجم عن كل هذا من صراعات ثقافية، جعلتنا أشبه ما نكون بأوروبا في القرن السابع عشر، عندما حدثت حرب الثلاثين عامًا بين البروتستانت والكاثوليك، وأدت إلى مقتل ملايين الضحايا؛ فقد خسرت ألمانيا على سبيل المثال نصف عدد سكانها تقريبًا في هذه الصراعات. بالإضافة إلى ما تخلل تلك الحرب من اضطهاد ديني، وتهجير طائفي أشبه بما نمر به الآن. ولكن أوروبا تجاوزت هذه المرحلة بالعقلانية وفكر التنوير، وهو فكر متسامح ومنفتح على ثقافات العالم، ويعتبر العقل مَلَكة الإنسان الكبرى.
مع فكر التنوير تجاوزت الفلسفة في القرن الثامن عشر الفلسفات الميتافيزيقة ومناهجها، ليصبح العقل أداة أساسية للنظر في جميع حاجات الإنسان وقضاياه الاجتماعية والفكرية وحقوق الإنسان، مستفيدًا من جميع منجزات القرون السابقة، وخاصة الفلسفة العقلانية والتجريبية والنهضة وفلسفتها الإنسانوية، بعد أن استوعبتها وهضمتها، ولكنها شرعت آفاقًا جديدة للفكر الفلسفي إطلاقًا ما زالت آثاره ونتائجه فاعلة، وهذا ما ميز فلسفة التنوير، ولذلك فهي ليست بالضرورة فترة ناجزة من تاريخ الفلسفة، وإنما فترة متدفقة، ما تزال فعاليتها مستمرة بشكل ما حتى الآن.
كتاب فلسفة التنوير مهم للمتخصصين في الفلسفة، وخاصة فلسفة القرن الثامن عشر، بالإضافة إلى أهميته للقارئ الجاد الذي لا يريد ثقافة سريعة سهلة الهضم، وإنما القارئ المتأمل والمتعمق.
إبراهيم أبو هشهش: اخترتُ ترجمة كتاب فلسفة التنوير شعورًا بالمسؤولية تجاه حالنا المعاصر
س: من هذا المنطلق هل يمكن القول إن ترجمة فلسفة التنوير هو موقفك ممّا يعيشه العالم العربي اليوم؟
- هذا صحيح، أنا اخترت هذا الكتاب من بين عناوين كثيرة عُرضت عليّ من أجل أن أختار كتابًا أترجمه، وكنت أعرف أن هذا الكتاب أكثرها صعوبة وإشكالية، وهو يتحدى الثقافة الفردية، وقبل أن أشرع في ترجمته، تسلحت بمعرفة فلسفية كبيرة جدًا، واقتنيت عشرات الكتب من أجل قراءة ذلك العصر وفلاسفته، وأحضرت قواميس متخصصة في مصطلحات فلسفة التنوير، وفي الفلسفة الأوروبية. لذلك لم تكن الترجمة عملية تقنية فقط، بقدر ما كانت عملية عقلية معرفية شاملة.
عودة إلى سؤالك، كان اختياري لهذا الكتاب شعورًا بالمسؤولية تجاه حالنا المعاصر.
س: يرفض كاسيرر في الفصل الرابع من الكتاب، القول إن التنوير كان حقبة غير دينية ومعادية للإيمان في اتجاهه الأساسي. كيف نستطيع التوفيق بين هذه النظرة والشك الذي اتسمت به فلسفة التنوير إزاء الخرافة والدين؟
- كاسيرر فيلسوف مثالي، وهو ينطلق في مباحثه في حقول الفلسفة في القرن الثامن عشر، من موقف فلسفي مثالي. وهذا الموقف المثالي ليس موقفًا معاديًا للدين، وإنما منحاز بصورة ما إلى الإيمان.
اكتشف كاسيرر أن هناك أفكارًا مسبّقة ونمطية عن فلسفة التنوير من قبيل أنه حقبة غير دينية، وغير تاريخية (بمعنى أنها أهملت النظرة التاريخية). فنفى ذلك، وأكّد أن فلسفة التنوير لم تكن معادية بالضرورة للدين. كما وضح أن فلاسفة التنوير كانوا معادين لرجال الكنيسة وتسلطهم وفسادهم، أكثر ممّا هم معادين للإيمان، وكانوا يرون أن عدو الدين ليس الإلحاد، وإنما الخرافة والتعصب، وتوقف طويلاً عند مفهوم الدين الطبيعي السابق لجميع الديانات الوضعية أو أديان الوحي، كانت فلسفة التنوير تؤكد على كرامة الإنسان وحريته، ولذلك رفضت أن يتخذ الدين ذريعة للخضوع لطغاة أرضيين.
يريد كاسيرر أن يعيد النظر في كثير من الآراء التي تقف من التنوير موقفًا معاديًا أو سطحيًا.
س: "وُجدت على الدوام علاقة وثيقة بين الأسئلة الأساسية للفلسفة المنهجية والأسئلة الأساسية للنقد الأدبي؛ فمنذ تجديد العقل الفلسفي، أي منذ عصر النهضة التي أرادت أن تكون نهضة للفنون والعلوم، أفضت هذه العلاقة إلى تأثير متبادل مباشر وحيوي" يؤكد كاسيرر هنا على أهمية قراءة الفلسفة والتمكن من النظريات النقدية للناقد للأدبي، ولكن ما هي أهمية قراءة الفلسفة، للأديب؟
- أعتقد أن الأديب بحاجة لجميع جوانب الثقافة الإنسانية، لأن الأدب في تعريفه الأول هو علم الإنسان. فالأديب مختص - بطريقة ما وإن كان تغير منهجية - بكل جوانب الأنشطة الإنسانية، فهو عالم نفس، وعالم تاريخ واقتصاد وسياسة...إلخ، فهو يسلط هذه المعرفة على نظرته إلى الحياة وإعادة صياغتهاأدبيا، ولكن بطريقة حدسية، دون الخطوات المنهجية سواء العقلية أو البحثية أو التجريبية التي ينتهجها العالم.
إبراهيم أبو هشهش: هناك أهمية خاصة لقراءة الفلسفة للأديب والمبدع والناقد على حد سواء
من واقع تجربتي في التدريس الجامعي، أجد دائمًا صعوبة في تدريس مادة النقد الأدبي، لأن الطلاب ليس لديهم أي خلفية فلسفية عن أصول هذه المناهج. فكل منهج نقدي مرتبط بمنهج فلسفي، والمنهج النقدي على نحو ما ليس إلا تجليًا لتلك الفلسفة في مجال الأدب والفن.
أقرب حقلين معرفيين - كما يقول هايدجر وغيره - هما الفلسفة والشعر. لذلك هناك أهمية خاصة لقراءة الفلسفة للأديب والمبدع والناقد على حد سواء.
س: نلاحظ أنك ترجمت أعمالاً في الأدب والفكر والسياسة على حد سواء، هل هناك فرق بين الترجمتين؟
- الترجمة كعملية أدبية وعقلية وإبداعية، تحتاج إلى عدة معرفية وثقافية واسعة؛ عدة المبدع اللغوية، وقدرته على الخلق والتصرف باللغة تصرفًا مرنًا ومؤثرًا، وفي الوقت نفسه، فهو بحاجة أيضًا إلى عدة ثقافية، قد تكون أشمل وأكثر تخصصًا من عدة المبدع الذي يشتغل بلغته فقط.
أصعب أنواع الترجمة هي ترجمة الفلسفة، لأن لغة الفلسفة لغة رفيعة، وذات مستوى أدبي عال. كما أنها في غاية الدقة، تقوم على المصطلح والحدة العقلية، وبالتالي على الترجمة أن تضع كل كلمة في مكانها بالضبط.
في الأدب أهم عدة للمترجم هي الإحساس المرهف باللغة المصدر، أي اللغة المترجم منها، وباللغة الهدف، أي المترجم إليها. بالإضافة لسعة المعجم اللغوي، والقدرة على أن يمثل الثقافة الأخرى واللغة الأخرى في لغته، بحيث يصبح النص مقروءًا في اللغة العربية بسلاسة. وفي الوقت نفسه، ما يزال يمثل ثقافة أخرى، وكاتبًا ينتمي إلى تلك الثقافة، وهذا محتاج إلى جانب إتقان اللغتين، إلى معرفة كافية بثقافة مجتمعات اللغة المصدر، وما تتضمنه النصوص من إحالات ورموز وخصوصية.
س: كم استغرقت من الوقت في ترجمة كتاب "فلسفة التنوير"؟
- سنة ونصف تقريبًا، ولكنها سنة ونصف من الانكباب الجاد على العمل. في بعض الأيام كنت أقضي ثماني ساعات لأترجم ثلاث صفحات فقط، فهو كتاب صعب، وينتقل من موضوع لآخر. وقد احتجت لعشرات الكتب والقواميس في ترجمته. كما احتجت لتزويد الكتاب بهوامش ضرورية للقارئ العربي.
س: هناك مترجمون فلسطينيون محترفون على مستوى الوطن العربي، إلا أنهم يعملون في مؤسسات متفرقة في شتى الدول العربية، ما هي أهمية مأسسة الترجمة على مستويين: حركة الترجمة ذاتها، وعلى الثقافة الفلسطينية؟
- الترجمة تحتاج لإمكانات مؤسسية، ومالية، وإدارية. لأنها عملية متداخلة، لها علاقة بصناعة الكتاب، مثل: الحصول على حقوق ترجمة الكتاب، والملكية الفكرية، والخضوع لشروط دار النشر الأصلية، وغير ذلك من أمور المراجعة والطباعة والنشر. هذا الأمر يحتاج لعمل مؤسسات وليس أفراد.
أعتقد أن وضع الترجمة في الوطن العربي أفضل بكثير مما كان عليه قبل عشر أو عشرين أو ثلاثين سنة. يبدو أنهم أدركوا أهمية الترجمة، وحاجتهم للنهضة. والنهضة أساسها الترجمة، هذا حدث في العصر العباسي، وفي اليابان قبل 200 سنة، وهذا حدث في النهضة الأولى قبل أكثر من قرن ونصف القرن.
أنا أنظر للثقافة العربية على أنها ثقافة متكاملة، وأفرح لدار مغربية تنتج باللغة العربية، مقدار ما أفرح لو كانت في فلسطين أو القاهرة أو بيروت أو بغداد أو عمان أو الخليج...إلخ. نحن نقرأ لكتاب عرب، والحدود لا قيمة لها في وجود اللغة والثقافة المشتركتين، والمهم أن يصل الكتاب إلى القارئ.
س: بعد 13 عامًا على ترجمة كتاب "تعايش الثقافات" ووصول أشخاص لسدة الحكم من أمثال ترامب واليمين الأوروبي، الذين يتحدثون عن "ثقافة إسلامية" أو ما أصبح متعارفًا عليه في الإعلام (إسلامفوبيا). أما زلت ترى صحّة تحليل هارالد موللر؟
- نعم، وكل ما حدث بعد أحداث سبتمبر، من صعود اليمين، والحروب المعاصرة، وفوز ترامب، بدا أنه يحقق نبوءة هنتنغتون، إلا أن هذا من أكبر الأوهام. كل ما يحدث في الوطن العربي هو نسف لطروحات هنتنغتون، وتأكيد لطروحات موللر.
أهم ما طرحه موللر، هو أن الأصولية تتوجه بالعداء لأبناء الثقافة نفسها، وليس للثقافات الأجنبية. وهذا ما تقوم به "داعش" والمنظمات الإسلامية المتطرفة، فهي تبحث عن أعدائها بين أبناء الثقافة نفسها، وإذا ناصبت القوى الأجنبية العداء، فذلك فقط لأنها تدعم الأعداء الثقافيين المحليين. الحروب الثقافية تحدث عادة في الثقافة نفسها، وليس بين الثقافات المختلفة، هذا ما حدث في أوروبا بعد الأصلاح اللوثري والكالفيني، وهذا ما يحدث عندنا الآن. ولكن يجب أن نقول إن هذه الحروب الثقافية ما هي إلا تجليات ظاهرية لعوامل تاريخية واقتصادية عميقة وفاعلة.
ما حدث في الغرب من صعود لليمين الشعبوي، حدث نتيجة أسباب سياسية واقتصادية، كالبطالة والهجرة التي يرون أنها تنافسهم على مجالهم الحيوي. أما العداء للثقافة الإسلامية، فليس عداء جديدًا، فهو موجود كامن من العصور الوسطى، وهذا عداء يحدث بين الناس الذين يتاخمون أنفسهم على حدود جغرافية، وينجم عن التنافس على المجالات الحيوية، مثل الثروات الطبيعية والمائية والزراعية، والتوسع والنفوذ.
إبراهيم أبو هشهش: العداء للثقافة الإسلامية، ليس عداء جديدًا، فهو موجود كامن من العصور الوسطى
س: هل تعمل على ترجمة كتاب آخر هذه الأيام؟
- في الوقت الحالي لا. أنا أتأنى تأنيًا شديدًا قبل أن أختار كتابًا، لأنني أدرك حجم المسؤولية وحجم التعب الذي سأقبل عليه.
س: في عام 1988 قررت التوقف عن التدخين وكتابة الشعر، هل يستطيع الشاعر التوقف عن كتابة الشعر؟
- يستطيع، كما حدث معي. ولكن لا يعني أنه يتوقف عن رؤية العالم شعريًا. أما تنفيذ هذه الرؤية على شكل صياغات لغوية فهذه مسألة أخرى. اكتشاف الشعر في الحياة والوجود جزء من تكويني الإنساني والفكري والثقافي من الصعب التخلص منه.
من ناحية تقنية أنا قادر على كتابة الشعر في أي وقت، كما أنني قادر على العودة إلى التدخين، لن يمنعني أي شيء وليس علي سوى أن أشعل سيجارة.
أعتقد أنني توقفت عن الشعر بدافع الميل للمثالية، لأنني كنت أتوقع أن أحقق أكثر ما حققت، بمعنى أن طموحاتي الجمالية كانت أكبر من موهبتي، أو هكذا شعرت في لحظة معينة، فتوقفت. أحد الأصدقاء قال لي تفسيرًا لم يخطر على بالي، ولكن أعتقد أنه صحيح إلى حد ما، وهو أن الانتفاضة الأولى جعلتني أستغرق استغراقًا وجدانيًا وتامًا في الحالة الفلسطينية.
في فترة الحماس الفلسطينية، كنت ربما من أوائل الشعراء الذين تأملوا الوجود من زوايا خاصة جدًا. أما مع اندلاع الانتفاضة، فقد رأيت أن الطريقة التي أنظر فيها للكون والوجود، غير مناسبة لما يحتلني وجدانيًا الآن. خاصة أنني كنت أرى صور الأطفال القتلى في غزة والضفة كل يوم، تنشرها المجلات على شكل براويز ضخمة على أغلفتها الداخلية والخارجية. أحسست بلا جدوى أي شيء آخر غير الانهماك في الهم الفلسطيني، على المستوى الوجداني في الأقل.
س: كيف ترجمت هذا الانهماك على مستوى الإنتاج؟
- قد أكون أقرب للمثقفين الشفاهيين. وقد يكون تدريسي في الجامعة، له دور في ذلك، لأنني أبث أفكاري أمام الطلاب، وأحس أنها تصل، ولا حاجة لإعادة كتابتها ونشرها على نطاق أوسع. ربما لو لم أكن أستاذًا جامعيًا لكتبت أكثر.
أحيانًا أشعر بلا جدوى أي شي، خاصة أن الكتب تتراكم تراكمًا كميًا، يتحدى أي قارئ. أقول: ما هي الإضافة في كتابة كتاب آخر؟ لذلك لا أحب دخول المكتبات، لأنني أشعر بيأس شديد، والعمر أقصر من قراءة جزء بسيط من المعرفة الإنسانية، وأي إضافة ستكون نملة في الصحراء العربية الكبرى.
إبراهيم أبو هشهش: قد أكون أقرب للمثقفين الشفاهيين. وقد يكون تدريسي في الجامعة، له دور في ذلك
س: ما هو مصير شعرك قبل عام 1988؟
- لم أنشر مجموعة شعرية، ورفضت ذلك، بالرغم من أن رابطة الكتاب الأردنيين وبعض دور النشر عرضوا عليّ ذلك، وأنا طالب في الجامعة الأردنية. لأنني كنت أرى أن تجربتي ما زالت في طور التشكل، وعلى أي حال فقد كنت شاعرًا مقلّاً.
قصائدي التي نشرت في الصحف، كان بعض أصدقائي ينشرونها غالبًا دون معرفتي، أما الآن فلا أحتفظ بأي شيء من تلك القصائد، وبعض المقطوعات التي أنشرها على صفحتي في "فيسبوك" هي من ذاكرتي فقط. وكذلك لا أحب الاحتفاظ بكتبي التي اقتنيتها أو قرأتها، فهي مشتتة في كثير من الأماكن والبلدان.
س: ما هي تقييمك لتجربة جائزة إحسان عباس؟
- فيما يتعلق بجائزة إحسان عباس، أنا مجرد منسق، أنسق بين الجائزة ومجلس أمنائها الذي يختار المحكمين، ولم أكن محكما في أي دورة من دورات الجائزة.
للأسف الشديد، نحن اضطررنا لحجب الجائزة ثلاث مرات، بسبب قلة عدد الأعمال التي قُدمت، وهبوط مستوى معظمها، وفي هذه السنة قررنا أن لا تحجب مرة أخرى، حتى لا تصاب الجائزة بضربة قاتلة.
وفيما يتعلق بمنح الجوائز، لا يعني أن من يحصل عليها أنه الأفضل، ولكنه يجب أن يكون مستحقًا وجديرًا بالفوز في كل الأحوال. حتى من حصلوا على جائزة نوبل للأدب، كان هناك من هو أعظم منهم بكثير أحيانًا، ولكنهم كانوا أيضًا جديرين بهذه الجائزة، فالجائزة تُمنح لكاتب جيد وكتاب جيد، حتى مع وجود الأفضل، لأن هذا الأفضل لم يتقدم، أو لم تطلع عليه الجائزة، وقد يكون هناك ظروف أخرى، كأن يكون الكتاب ليس ضمن المدة الزمنية التي حددتها الجائزة، أو ليس ضمن موضوع الجائزة لهذه السنة.
وأنا أعرف أدباء كثيرين لم يحصلوا على الجائزة أفضل من أولئك الذين حصلوا عليها، علما أن الذين حصلوا عليها يستحقونها أيضًا.
س: في حوار نشر لك على صحيفة العربي الجديد، ترى أن النقاد العرب المعاصرين لم يستطيعوا أن يبلوروا نظرية خاصة بالمدونة الأدبية العربية، كما أن النقد الأدبي العربي المعاصر لا يقوم بواجبه كما ينبغي في متابعة "السوق الأدبية". كيف تقيم المشهد النقدي في فلسطين؟ وهل هناك تجارب نقدية تنصح بقراءتها؟
- المتابعة لهذا الكم الهائل من الإنتاج الأدبي بات مستحيلاً، وهذا ما أدى إلى تحييد الناقد، وجعْلِه أقل أهمية ممّا كان سابقًا. هناك كتاب اسمه "موت الناقد" لرونان ماكدونالد من ترجمة الصديق فخري صالح، يقول إن القارئ في الوقت الحالي لم يعد بحاجة للنقاد، لأن من يقوم بعمل النقاد الآن هو الإعلام، ووسائط التواصل الاجتماعي.
بالنسبة للنقد المنهجي الأكاديمي فهو لا يستطيع - نتيجة الكم الهائل من الكتب التي ترمي بها المطابع يوميًا - أن يتابع الحد الأدنى من ذلك، والناقد الأدبي أصلاً شخص مهمش ولا يُسأل، والصحيح، أن كثيرًا من هؤلاء النقاد لا يستحقون أن نطلق عليهم لقب ناقد.
الناقد شخص مختلف، يجب أن يكون لديه تكوين ثقافي موسوعي، ومعرفة عميقة وتفصيلية وواسعة بالأدب العربي والعالمي، وأدوات لغوية وجمالية وفلسفية للنظر في النصوص، وقدرة على إصدار الأحكام، وذائقة جمالية رفيعة، ونزاهة في الحكم، وذاكرة قوية تستطيع أن تستدعي النصوص وتقارنها، وجرأة على القول.
إبراهيم أبو هشهش: المشهد النقدي العربي بائس على مستوى إنتاج النظرية النقدية
وفي المجمل، المشهد النقدي العربي بائس على مستوى إنتاج النظرية النقدية، لا يستطيع أن يستخلص نظريات، وما نراه من متابعات "نقدية" إنما هي أشبه بدراسات وصفية أقرب ما تكون بأعمال البيبليوغرافيا (Bibliography) التي تهدف للأرشفة، والتفصيلات. ولكنها لا تقول شيئًا يستحق الاقتباس غالبًا، مع استثناءات قليلة.
أحب قراءة ما يكتب عدد من النقاد العرب، مثل: عبد الفتاح كيليطو، وسعيد يقطين، وأحمد المديني، ومحمد العباس، وفيصل دراج، وفخري صالح، وصبحي الحديدي، وبعض الأسماء الأخرى، وأتابع بشغف ما ينشر حسن خضر من مقالات يتناول فيها الحالة العربية والفلسطينية من منظورالنقد الثقافي الشامل .
س: ما رأيك في نتيجة جائزة البوكر في نسختها الأخيرة، وحصول إبراهيم نصر الله عليها؟
- أعتقد أن إبراهيم نصر الله يستحق الفوز، صحيح أن بعض الناس تحفظوا على منحه الجائزة عن هذه الرواية، إلا أنه شخص جدير بالفوز على مجمل أعماله، وهو كاتب جاد وشديد الإخلاص لأدبه وقضيته، كما أنه يعمل بدأب على تطوير أعماله وأدواته. كما أنه يتابع حقولاً من التاريخ الفلسطيني المعاصر وما قبل المعاصر، من أجل تجلية القضية الفلسطينية، فهو يستحق كل تكريم من هذا الجانب.
الجوائز ليس هدفها بالضرورة أن تبرز أفضل الأعمال دائمًا، فهذا أمر شبه مستحيل لأن الأحكام مهما كانت موضوعيتها تظل ذات طبيعة نسبية، ولكن يجب أن تُبرز أعمالاً جيدة في الغالب. أرى فائدة للجوائز العربية، فقد نشطت حالة القراءة، وأنقذت الناس إلى حد ما من هجمة مواقع التواصل الاجتماعي، وأعادتهم للقراءة إلى حد ما.
س: ما رأيك في أداء المؤسسة الثقافية الفلسطينية الرسمية؟
- وزارة الثقافة أو أي مؤسسة رسمية ليس مطلوبًا منها إنتاج ثقافة، وإنما هي مؤسسات لإدارة الثقافة. الإبداع حالة فردية، والثقافة عمل جماعي. وبالتالي تراكم العقول والإبداعات والمواهب المختلفة، ونشاط المجتمع، هو ما ينتج ثقافة.
للمؤسسة الرسمية أهداف، قد لا تكون نفسها أهداف المثقفين، لذلك دائمًا ما ينتقد المثقفون هذه المؤسسات. المؤسسات الرسمية لها علاقة بالجمهور العادي، وطلاب المدارس، وبالصناعات الثقافية، وتطوير اللوائح الناظمة للصناعات الثقافية. لذلك لا أتوجه باللوم على الإطلاق لأي مؤسسة ثقافية. والآن يوجد عشرات المنابر الأهلية التي تقوم بدورها، وأعتقد أن هذا الأمر موجود في كل العالم.
وزارات الثقافة هنا في الدول العربية، عبارة عن شيء لسد الفراغ، وترصد لها أقل ميزانية من الناتج القومي أو ميزانية الدولة. وهي نوع من رفع العتب. ولكن بالرغم من هذه الإمكانيات المتواضعة، شكلت في بعض المرات حالة ثقافية جيدة، وخاصة عندما يصدف وجود وزير مثقف مخلص للنهوض بمسؤولية الثقافة في مجتمعه.
س: يبدو منتوجك أنه وليد المكتبة، إلا أنك نشرت مجموعة من النصوص عن حيوانات النكبة على صفحتك في "فيسبوك"، تبدو أنها وليدة قدميك أو تجربتك، إلى أيهما تميل: المتخيل أم المعيش؟
- أنحاز انحيازًا تامًا إلى المعيش. وإذا أنتجت انتاجًا أدبيًا إبداعيًا فسوف ينهل فقط من المعيش الأوتوغرافي. وبالدرجة الأولى، من أول خمس سنين في طفولتي. أو من ذاكرتي وخبراتي الحياتية المبكرة جدًا في مرحلة ما قبل المدرسة أو طفولتي الأولى ومراهقتي.
أما النصوص التي ارتبطت بالنكبة، فلم أكن أتوقع أن تلقى كل هذا الصدى، هنا وفي بعض الدول العربية. بل إن بعض دور النشر قد طلبت مني أن أجمعها وأنشرها، وأرجو أن أتابع هذا الأمر حتى أستكمله.
س: لماذا إبراهيم أبو هشهش مقل؟
- لأنني أقرأ كثيرًا.
س: ما هو أكثر كتاب أثر فيك؟
- هناك كتب أقرؤها منذ ثلاثين سنة، وأعيد قراءتها، بلا توقف. مثل كتب الجاحظ، والشدياق، وكنديد لفولتير، وبعض المجاميع الأدبية، مثل العقد الفريد، وأغاني الأصفهاني، وكذلك كتاب ألف ليلة وليلة وحكايات الأخوين غريم وبعض الكتب الألمانية الأخرى.
في كل مرحلة كان هناك كتاب، يجعلني أقف وأكتشف العالم من جديد. هناك كتب كثيرة لا أستطيع حصرها الآن، لأنني إنسان لم يفعل شيئًا طوال حياته إلا أنه قرأ.
س: ما هو آخر كتاب قرأته؟
- رواية "الفراشة الزرقاء" لربيع جابر.
اقرأ/ي أيضًا:
عدنان الصائغ: الشاعر يبقى متمردًا ومرتدًا