04-يونيو-2018

على هامش معرض الكتاب في نسخته الحادية عشرة زار عدنان الصائغ؛ الشاعر، والكاتب العراقي الكبير فلسطين للمرة الثانية. وبالرغم من أن عمره تجاوز الستين إلّا أنه ما زال متحمسًّا للشعر والحريّة والانطلاق.

ولد الصائغ في الكوفة عام 1955 ونشأ فيها، وعاش ويلات الحروب التي مرّ بها وطنه العراق، حتى خروجه عام 1993 إلى المنفى العربي: عمان ثم بيروت لعام 1996، ومنه إلى المنفى الأوروبي: صقيع السويد ثم ضباب لندن، مقيمًا حتى اللحظة.

نشر 11 ديوانًا، وجمعها في الأعمال الشعرية الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت بالاشتراك مع دار سطور في بغداد، وكانت في ثلاثة مجلدات.

على هامش معرض فلسطين للكتاب التقى "الترا فلسطين" الشاعر عدنان الصائغ، في مدينة رام الله، وكان معه هذا الحوار: 


س: نبدأ بما قاله عنك الفلسطيني العراقي جبرا إبراهيم جبرا: "الشعر اليوم كثير جدًا، ولكن ما يستحق أن يُصغى إليه قليل جدًا، وشعر عدنان الصائغ من هذا القليل".

- أفتخر بشهادة الكبير جبرا أستاذًا مبدعًا وصديقًا حبيبًا. عندما كنتُ ما أزال جنديًا في تلك الحرب المجنونة العبثية الطويلة الحرب، العراقية - الإيرانية، عشتُ فيها حوالي عامًا ونصف مع مجموعة من الجنود في إسطبل للحيوانات، وفي إحدى الليالي بدأت على ضوء الفانوس بكتابة بعض الأبيات، تطورت فيما بعد لتصبح ديوان "نشيد أوروك": في المَحَافِلِ.. أو في المَزَابِلِ، لا فرقَ.." .. والخ.

كنت أكتب لا للنشر، وإنّما لتدوين يوميّاتي السريّة في هذي البقعة المنسية من العالم. ولكن صديقي الشاعر عبد الرزاق الربيعي أخبر فيما بعد الناقد والروائي جبرا ابراهيم جبرا الذي طلب أن يطلع عليها، فلملمت مسوداتها الأولى، وذهبنا إليه، وعندما قرأها أشاد بها كثيرًا، ونبّهني إلى أنني أن واصلتها فستكون ربما ملحمة عراقية معاصرة.. وهذا ما عنى لي الكثير وشجعني على المواصلة، ولم أكن وقتها قد أصدرت إلّا ديواني الأول. ومن هنا بدأت علاقتي الطويلة والجميلة، مع هذا المبدع الاستثنائي.

[[{"fid":"72230","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"4":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":380,"width":384,"class":"media-element file-default","data-delta":"4"}}]]

عدنان الصائغ مع جبرا إبراهيم في فندق القدس في عمّان عام 1994

س: أنت شاعر قادم من تاريخ ثقيل، التاريخ العراقي المحمل بالحروب، وقد جئتنا بشعر متخفف من الأفكار الكبرى، ومنشغل بالهموم الإنسانية الأولية، ألا تجد أنّ هناك مفارقة؟

أجد أن هناك همومًا إنسانية داخل همومنا الكبرى، نسيناها، أو أشغلتنا عنها الشعارات الكبرى التي غطّت على كل شيء في حياتنا. هموم إنسانية صغيرة مهمّة. وهذه الهموم هي منبع الهموم الكبرى. سأعطيك واحدة منها مثلًا: غياب الكتاب. أدى إلى الجهل، والجهل أدى إلى صعود طبقة من السياسيين الجهلة ورجال الدين الجهلة تحكّموا بمصير ومستقبل شعب كامل. وهؤلاء أوصلوا بلداننا العريقة الغنية إلى الفقر والحروب المتواصلة والاقتتال الطائفي والاحتلال. هذا الترابط الجدلي قادني لكتابي بمجلدين "القراءة والتوماهوك، ويليه، المثقف والاغتيال" بـ780 صفحة، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت. والآن انظرْ إلى هذا "الهم الصغير"! (غياب الكتاب) الذي أغفلناه في زحمة همومنا وشعاراتنا الكبرى كيف أضاع أو قتل همّنا الكبير. وانظرْ إلى هذه الدائرة المترابطة بين التخلف والفقر والإرهاب، وبين الدكتاتورية والاحتلال.

ودعنا الآن نسحب هذه النظرة إلى الثورات العربية، لماذا انتصرت الثورات المضادة؟ السبب أن الدكتاتورية حاربت الوعي ومنعت الكتب المتنورة وحاولت أن تفرّغ العقول، وما إن نجحت في ذلك حتى أتت العقليات المتخلفة والظلامية فوجدت الأرض جاهزة، فقفزت إلى السلطة. إن الإشكالية ليست في الثورة، وإنما فيما صنعه وراكمه الدكتاتور. الثورات الشعبية الساعية إلى الحرية كانت صادقة طاهرة مخلصة، لكنها سُرقت بسهولة من بين أيدينا.

في منفاي حيث أعيش وأكتب بلا رقيب عليَّ سوى ضميري الإنساني والأدبي. ولأنني غير منتمٍ لأي جهةٍ أو حزب أو طائفة، وغير مرتبط بعمل في أية مؤسسة أو جمعية، ولا أطمح لأي منصب أو وظيفة سوى الشعر؛ فأنني أقولُ أفكاري ورأيي بوضوح، وأترك للقصيدة أن تكتب نفسها كما تريد.

[[{"fid":"72231","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"5":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":380,"width":577,"class":"media-element file-default","data-delta":"5"}}]]

عدنان الصائغ مع الروائي عبد الرحمن منيف في بيروت عام 1996

س: تقول: "الحرية أولًا" ولكن المفارقة في حالتك أنّها ارتبطت بالمنفى لا بالوطن كما هو معتاد، هل بالإمكان أن يصبح المنفى وطنًا؟

أؤيدك في هذا الكلام بالمطلق الأعمّ، لأن وجودك في الوطن مع انتفاء الحرية والكرامة، لا يبقيه وطنًا وإنما يصبح زنزانة مترامية الأحزان، ولأن الإنسان والكاتب بالأخص مجبولٌ بالحرية، فطموحه الأول هو الحرية، لذلك فقدر الشعراء الأحرار دائمًا هو المنفى، من أوفيد، أول شاعر منفي (القرن الأول الميلادي) وحتى قرننا هذا المتشعّب المنافي.

    وجودك في الوطن مع انتفاء الحرية والكرامة، لا يبقيه وطنًا وإنما يصبح زنزانة مترامية الأحزان   

عندما نشرت أعمالي الشعرية، انتبهتُ وانتبه البعض أيضًا إلى أنّ دواويني الأولى التي كتبتها وأنا في العراق، كانت تحمل عبارات مثل "منفى" "غربة"، ذلك وأنا في الوطن، كثيرًا ما كنت أشعر بالغربة والنفي، وعندما خرجت لم يتغيّر الكثير، سوى أنني تملّكتُ الحرية التي حلمت بها طويلًا، ولكن يبقي الحنين والجذر الأول أو "البئر الأولى" كما يصفها ويضعها جبرا عنوانًا لأحد كتبه.

[[{"fid":"72229","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"3":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":326,"width":580,"class":"media-element file-default","data-delta":"3"}}]]

دواوين شعر للشاعر عدنان الصائع

س: من هنا ربما يمكن القول أن شرطين من شروط الشعر تحققا في المنفى؛ الحرية والحنين.

- نعم، وفي ديواني "تأبط منفى" من أولى قصائده "حنين"، أقول فيها:

"لي بظلِّ النخيلِ بلادٌ مسوّرةٌ بالبنادق

كيف الوصولُ إليها

وقد بعد الدربُ ما بيننا والعتابْ

وكيف أرى الصَحْبَ

مَنْ غُيّبوا في الزنازين

أو كرّشوا في الموازين

أو سُلّموا للترابْ

إنَّها محنةٌ - بعد عشرين -

أنْ تُبْصِرَ الجسرَ غيرَ الذي قد عبرتَ

السماواتِ غيرَ السماواتِ

والناسَ مسكونةً بالغيابْ".

س: وصفتك جريدة "بابل" العراقية بالمرتد في عدد 13 أكتوبر 1996، هل ما زلت مرتدًا؟

نعم، الشاعر يبقى – ويشرّفه أن يبقى- مرتدًا ومختلفًا ومتمرّدًا ومحتجًّا على كل قبح وجهل وظلم. صدرت تلك القائمة الأولى، عام 1996، وكنتُ وقتها في بيروت وقد أصدرتُ "نشيد أوروك"، ثم صدرت بعدها القائمة الثانية في صحيفة "الزوراء" في عدد 2 آذار عام 2000، وكنتُ وقتها في السويد. وشملت القائمتان أسماء كثيرة من أدباء وفناني ومفكري العراق، من بينهم: مظفر النواب، فاضل العزاوي، لميعة عباس عمارة، فوزي كريم، عبد الكريم كاصد، جمعة اللامي، سركون بولص، نازك الملائكة، د. حاتم الصكر، كريم العراقي، وغيرهم الكثير، وفي كلا القائمتين كان اسمي.

هذا أسلوب الأنظمة الشمولية دائمًا، إذ يعتبر الحاكم فيها نفسه حاكمًا أزليًا بأمر الله والبلاد. ولا كلمة أو رأي لأحد غيره. تريد سلطاتنا أن تفكر بدلًا منّا، ولكن هذا مستحيل، هذا خارج المنطق والعصر، لهذا ظلّت بلداننا تعيش خارج العصر والمنطق.

عندما ألقى الترحال بي في أرض السويد، أخذني الصديق د. كاظم الموسوي في جولة، ثم أوقف سيارته عند أحد الأرصفة، وطلب أن يلتقط لي صورة، ثم أشار ورائي: أتدري أنّك تقف أمام بيت رئيس وزراء السويد يوران بيرسُن؟ لم أصدق، وبدأت أتلفت هنا وهناك أبحث عن الحراس والمصفحات والأسلاك والأسوار والشرطة، فلم أجد شيئًا، بعدها كتبت مقالة ساخرة: "شرطي واحد لله يا محسنين!".

 

أمام هذه الصور التي رأيتها في السويد وبريطانيا وعموم العالم المتحضّر ازداد قناعتي رسوخًا بأنّ "الحرية هي أولًا"، وأن لا طريق لنهضة بلداننا إلّا بالحرية والتعليم والبناء. لذا يبقى الشاعر والمثقف مرتدًا على كل الأنظمة الشمولية بمختلف توجهاتها والتي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم من بؤس وفقر وتشقق وخراب وإرهاب.

وفي عصر التقنية الذي نعيشه اليوم بات منع شاعر ما، أو كتاب ما، أو عمل فني ما، أو فكر ما، أمرًا مضحكًا. وإنّ حظر أي إبداع من قبل أيٍّ كان، هو مجرّد حجب للشمس بغربال كما يقول المثل. لأنّ الفكر كالهواء والضوء لا يمكن أن يمنع. أنا ضدّ الرقابة على أي شيء. فالرقيب الوحيد، هو ضميرك وإنسانيتك وإبداعك فقط.

[[{"fid":"72232","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"6":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":380,"width":565,"class":"media-element file-default","data-delta":"6"}}]]

عدنان الصائغ مع محمود درويش

س: في شعرك يظهر سخط كبير على القدر، هل هو سخط نابع من تجربتك الشخصية مع النفي والتشرد أم من نظرتك الوجودية للحياة بشكل عام؟

- سأقرأ لك مقطعين:

المقطع الأول (حساب):

"أَيّها الربُّ

افرشْ دفاترك

وسأفرش أمعائي

وتعال نتحاسبْ"

المقطع الثاني (شكوى):

"نَظَرَ الأعرجُ إلى السماء

وهتفَ بغضبٍ:

أَيّها الربُّ

إذا لمْ يكنْ لديكَ طينٌ كافٍ

فعلامَ تعجّلتَ في تكويني!؟"

القدر الذي أقصده هنا وفي الكثير من قصائدي، ليس له علاقة بالله. لذلك ليس فيها اتهام للخالق، وإنما اتهام لرجال الدين الذين أوصلوه لنا بشكل قاسٍ وبشع وظالم. إن مشكلتي مع مثل هؤلاء. أنهم لا يرون الله إلا في القتل والدمار، أمّا أنا فأسمعه في الناي، وأراه في الطبيعة، وأقرأه في الوجدان. الله أوسع من أن يُحصر في جامع أو كنيسة أو معبد.

المقطع الثالث (من نصوص مشاكسة قليلًا):

"لَمْ ترَ ربَّكَ

إلّا بالنصلِ

وبالدمْ

وأنا أُبْصِرُهُ...

في الكِلْمةِ

في النغْمةِ

في زرقةِ عينيها،

... واليمْ

*** 

لا ناقوسَ

ولا مِئْذَنَةٌ

- يا عبدُ -

لماذا

لا تَسمَعُ

ربَّكَ

في

الناي

*** 

يا هذا الفانْ

ولتَنظُرْ

كيف تحاورَ ربُّكَ والشيطانْ

أكثيرٌ أنْ تتعلَّمَ

كيف تحاورُ إنسانْ".

س: يقول الناقد خليل الشيخ عن شعرك "وتصبح اللغة عنده أداة كشف التجربة وبلورتها، وأداة الرؤية العميقة التنبؤية التي تستكشف الذات والعالم من حولها"، هل تعتبر أن تجربتك الكتابية نقلت تجربتك الحياتية بشكل جيد؟

عدّ بعض النقاد وبعض القرّاء أن "نشيد أوروك" هو سيرة ذاتية للشاعر أو الوطن أو العالم أو التاريخ. وكذلك الأمر مع بعض دواويني الأخرى كـ "تأبط منفى"، و"أغنيات على جسر الكوفة" وغيرهما.

من ناحية المضمون هناك تياران في الشعر العراقي وفي الشعر العربي بشكل عام: تيار المباشرة والبساطة والوضوح والشعاراتية، وتيار الإبهام والغموض المتعمّد والتعقيد. وبصراحة أرى أن كليهما بعيدان عمّا أريد. لأن المباشرة فيها استسهال، وهي فارغة من الصور الفنية، والأخيلة المحلقة، في التيار المقابل فإن الغموض المفتعل يذهب بالقصيدة إلى الإنغلاق والتعمية ولا تفضي لشيء على المستوى الفني والفكري. وأرى أن كلا التيارين يلتقيان في النقطة نفسها وإن اختلفا. وساحتنا الشعرية تضج اليوم بتلال من التيارين خاصة بعد توفر وسائل الاتصال والنشر.

لذلك اتجهتُ ومجموعة من الشعراء في العراق وفي البلدان العربية الأخرى إلى التيار الثالث. وهو قائم على الحفر والاستكشاف والاجتراح من داخل اللغة والتجربة. بمعنى آخر: إبقاء اللغة وكذلك التجربة قريبة وبعيدة في آن واحد، وغامضة ومكشوفة في آن واحد أيضًا. فالشاعر هنا لا يضع أمام عيني قارئه حجابًا أسودًا، مثلما لا يبقي أشياءه مكشوفةً ببلادة. إنّه يترك لقارئه أن يكمل من خياله ما لم يقله الشاعر.

"وداعًا

نغادره الوطن المُرّ

ولكن إلى أين؟

كل المنافي أمرّ"

متى ستعود إلى العراق؟

في كل يوم يضع الشاعر المنفي رأسه على الوسادة، ويحنُّ ويحلم بالعودة إلى وطنه. إذا توفرت الحرية الكاملة للكتابة، نعم، سأترك كل شيء وأعود.

"أقلعتُ في أولِ قطارٍ إلى المنفى

وأنا أُفكِّرُ بالعودة

شاختْ سكّةُ الحديدِ

وتهرّأتِ العجلاتُ

وامحتْ ثيابي من الغسيلِ

وأنا ما زلتُ مسافرًا في الريحِ

أتطايرُ بحنيني في قارَّاتِ العالم

مثل أوراقِ الرسائلِ الممزّقةِ

دموعي مكسّرةٌ في الباراتِ

وأصابعي ضائعةٌ على مناضدِ المقاهي

تكتبُ رسائلَ الحنينِ

لأصدقائي الذين لا أملكُ عناوينهم

أنامُ على سطوحِ الشاحناتِ

وعيوني المغرورقةُ باتجاهِ الوطنِ البعيد

كطائرٍ لا يدري على أيِّ غُصْنٍ يَحُطُّ

لكنَّني دون أنْ أتطلّعَ من نافذةِ القطارِ العابرِ سهوب وطني

أَعْرِفُ ما يمرُّ بي

من أنهارٍ

وزنازين

ونخيلٍ

وقرى. أَحفَظُها عن ظهرِ قلب

سأرتمي، في أحضانِ أولِ كومةِ عُشْبٍ تلوحُ لي من حقولِ بلادي

وأمرّغُ فمي بأوحالها وتوتها وشعاراتها الكاذبةِ

لكنَّني

لن أَطْرُقَ البابَ يا أمي                       

إنَّهم وراء الجُدران يَنـتظِرُونني بنصالِهم اللامعة

لا تنتظري رسائلي

إنَّهم يُفتِّشونَ بين الفوارزِ والنقاطِ عن كلِّ كلمةٍ أو نأمةٍ

فاجلسي أمامَ النافذة

واصغي في الليلِ إلى الريح

ستسمعين نجوى روحي".

س: تقول في إحدى قصائدك إن الشعر أفسد عليك حياتك، كيف هي حياة الشاعر؟

أنا موظف لدى الشعر بامتياز. (والفرق أن الموظف يخرج للتقاعد بعد سنين) لكن عمل الشاعر سيبقى مدى حياته. عناء الشعر مطلق ولا نهائي، ولا يتوقف عند مرحلة معينة. لولا الشعر لتغيّرت كثير من أمور حياتي، لكن الشعر هو المصير الجميل والأليم الذي يحكم مزاجك وتصرفاتك وأفكارك وطريقة حياتك.

س: حصلت على الكثير من الجوائز العالمية في حياتك، ما الذي تعنيه الجوائز بالنسبة لك؟

الجائزة محطة تكريم فقط، تلفت نظر الشاعر في لحظة ما إلى أن ثمة من يحتفلُ به وأن هناك من يتابعه (عدا رجال الأمن والرقباء). وهذا التكريم متنوع وجميل ومتشعب قد يأتي بجوائز عينية، وقد يأتي على شكل شهادات من مبدعين أو دراسات من نقاد وباحثين، وقد يأتي عن طريق آراء أو كلام أو تعليقات من قراء عابرين.. كل هذا اعتبره جوائز رائعة ومشرفة للشاعر.

س: ولكن من الملاحظ أن معظم الجوائز التي حصلت عليها، هي جوائز أجنبية، لا يوجد احتفاء عربي بعدنان الصائغ على مستوى الجائزة.

الكثير من الجوائز العربية تضع شروطًا، فكرية أو سياسية أو دينية محددة، أنا خارج عنها. في مقابل هذا فإن الجوائز العالمية لا تشترط إلّا الإبداع وحده فقط. على كل حال، الشاعر الحق لن يرضخ لاشتراطات الجائزة، بل على الجائزة أن ترضخ لإبداع الشاعر. عندما كتبت أول قصيدة عن مرض والدي الممدّد على سريره في بيتنا الصغير في الكوفة، وكان عمري العاشرة، وقرأتها أمي، فبكت. هذه الدموع هي أول جائزة في حياتي.

    كتبتُ قصيدة حين مرض والدي وكنت في العاشرة من عمري، قرأتها أمي وبكت، تلك الدموع كانت أوّل جائزة لي      

وهذا العام 2018، وأنا في سن الـ63، استوقفتني فتاة صغيرة في الـ16 في بغداد وسلمتني ورقة فيها انطباعاتها العفوية عن شعري، عندما قرأتها أحسستُ بكل جوائز الأرض وزهورها بين يدي. وقد استأذنتها ونشرتها على صفحتي بكل زهو (...) هذا ما أريده، هذا ما أطمح إليه من ركام الدنيا، وهذا ما أعوّل عليه لعفويته وصدقه ونبضه. فهل هنالك جائزة في العالم تضاهي هذا الفيض من الحب؟!

"أنا شاعرٌ جوّاب

يدي في جيوبي

ووسادتي الأرصفة

وطني القصيدة

ودموعي تفهرسُ التاريخَ

أشبخُ السنواتِ والطُرُقاتِ

بعجالة مَنْ أضاعَ نصفَ عُمرِهِ

في خنادقِ الحروبِ الخاسرةِ والزنازين

مَنْ يُغطِّيني من البردِ واللهاثِ ولسعاتِ العيون"

*** 

"أنا القيثارةُ مَنْ يَعزِفُني؟

أنا الدموعُ مَنْ يبكيني؟

أنا الكلماتُ مَنْ.. يُردِّدني

أنا الثورةُ مَنْ يُشعِلُني؟"


اقرأ/ي أيضًا:

عارف حجّاوي: أخاف من الخائفين على اللغة العربية

محمد وبشير "متشردان" في طبيعة عذراء

"استعادة" كمال الجعفري ليافا.. عدالة سينمائية