21-سبتمبر-2021

مقال رأي |  

ليستْ الطفولةُ عمرًا زمنيًا نعيشه وفقط، أو مرحلة من مراحل حياتنا ما إن انقضى تنقضي معانيه، وإنما أيضًا مرحلة نعيشها ويبقى أثرها في وعينا والأخطر ما يبقى في اللاوعي، ولا ندرك بعضه أو كثيره إلا بعد سنوات متقدمة من حياتنا. 

حاول الأسرى الآباء والأمهات، الحفر بأظافرهم تحت أسوار السجن؛ لخلق الصلة والحفاظ عليها مع أبنائهم

ستبقى الطفولة المرتبطة بالغياب جرحًا نازفًا أو نُدبًا تحددُ ملامح شخصيتنا لزمنٍ طويل، والسجنُ مرآةٌ تطفو على سطحها صور من الطفولة تعتقد بأنها مطمورةٌ في اللاوعي فتحسبها نسيًا منسيا، لتكتشف بأنَّ هذه الصور تُحددُ مسارك في الحياة أكثر مما تحددهُ الحياة كواقعٍ ماديّ محسوس، فأنت من حيثُ لا تعي تقرأُ واقعك، بنظارات العقل الباطن، الذي تشكّل في الطفولة.

اقرأ/ي أيضًا: بروفايل | وليد دقة.. "رجل الزمن الموازي"

الحرمانُ من الطفولة، بفعل اعتقال أحد الوالدين أو جرّاء الاعتقال في جيلٍ تحت السن القانونيّ، يكادُ يكون على جوانبه المُختلفة، حرمان من مكوّنات الحياة الصحية والإنسانية، الحرمانُ من حنان أحد الوالدين وغياب دورِهم التربوي والتفاعلي له أثرٌ سلبي كبير وقد يكون مُدمرًا على شخصية الطفل، الأمرُ الّذي لم ترتقِ إليه الحالة الفلسطينيّة بشكل كاف ومقنع رغم اهتمامها في جوانب عديدة في حياة الأسير. فهي لم ترتق إلى هذا التحدي الذي نعتقد بأنه يجب أن يُكرس له كافة الإمكانيات الماديّة كمن يستثمرون في المستقبل، فالطفولة هي صناعة المستقبل، وبقدر ما هي صناعة مستقبل الطفل، هي صناعة مستقبل الأب الأسير، واستثمار في صمود شعبنا ومستقبله، ناهيك عن غياب المتابعة النفسيّة والرعاية الاجتماعية لأبناء وبنات الأسرى، على نحوٍ مُمنهج، فإن مراكز الأبحاث ولجان حقوق الإنسان والأكاديميّة الفلسطينيّة، لم تُكرّس لهذا الغرض، الجهد البحثي الكافي والجاد للإجابة على السؤال: ما الذي يُحدثهُ/ يُدمره اعتقال أحد الوالدين على حياة الطفل؟ وإلى أي مدى حدد هذا الحرمان خيارات هؤلاء الأطفال وحدد مستقبلهم مسبقًا؟ هل اعتقال أحد الوالدين شكّل مسارًا قدريًا جبريًا ينتظر الأطفال ولا مفرَّ من نتائجه وآثاره؟

لقد كنتُ شاهدًا خلال َسنواتِ اعتقالي ومن خلال إطلالةٍ شخصيّة على إشكالاتٍ تواجهُ الأسرى الذين بلغ أطفالهم سن الرشد -أي أحد الوالدين داخل السجن-. فكنتُ شاهدًا على فقدانِهم لأبنائِهم، ما أدى في بعض الحالات إلى تفكك أسرهم. لقد عاش الأسرى والأبناء حالاتٍ كثيرة من الاغتراب عن بعضِهم البعض، حتى بعد التحرر.

 هل اعتقال أحد الوالدين يشكّل مسارًا قدريًا جبريًا ينتظر الأطفال ولا مفرَّ من نتائجه وآثاره؟

في المقابل كان الأسرى ممن اعتقلوا وأبناؤهم في سن الطفولة وصاروا شبابًا، حريصون كثيرًا جرّاء إدراكهم الصورة التي وصفتها أعلاه، وكانوا حريصين على تعزيزِ هذه الصلة وإغنائِها بكثيرٍ من الروابط، مُستخدمين أشكالَ التواصلِ المُتاحة، الرسائل البريديّة المُكثفة، الرسائل المُعرّبة، التواصل التليفوني المُهرّب، الزيارات التي غالبًا ما تكون متقطعة ولوقتٍ قصير، لقد حاولَ الأسرى الآباء والأمهات، الحفرَ بأظافِرِهم تحتَ أسوار السجن؛ لخلقِ الصلة والحفاظِ عليها، مُستغلين مناسبات الأعياد وأعياد الميلاد لأبنائِهم التي رافقها إنتاجات إبداعيّة كالقصةِ القصيرة، ورسم الملصقات والتحف على أنواعها كالخواتم والأسوار والحفرِ على أجسامٍ صلبة مُختلفة، التي في غالبِها لم تكن إبداعات قائمة وملكات متوترة لدى الأسرى، وإنما ملكات تم تطويرها بفعلِ الحاجة إلى التواصل والإبقاء على دورِهم التربوي مع أطفالهم.

اقرا/ي أيضًا:  السجن وعالم الكلمات

وعندما نتأمل هذه الإبداعات، فإن غالبية تعبيراتِها الكتابية أو السمفونية التي تَحملُّها تتمحور ليسَ بالضرورةِ حولَ الطفولة وحاجاتِها، وإنمّا حول ما يعتقدهُ الأسرى رسائل تَربويّة لأطفالِهم، ظنًا منهم بأنهم يقومون بدورهم التربوي، ليس كآباء وأمهات فقط، إنمّا كآباء وأمهات وطنيين يحملون على أكتافهم مسؤوليات ومهام وطنيّة كمناضلين، ويردون عبر هذه المنتجات الإبداعيّة إنتاج أبنائهم على هيئتهم. وقد لا يكون هذا بحد ذاته عيبًا، ولكن حينما نُحمّلُ هذه الأكتاف الصغيرة، أكتاف أطفالنا، مسؤولياتٍ وطنيّة غالبًا ما نكونُ قد فشلنا في إنجازها، فإن ما يتبقى في طفولتِهم هو سيناريو كتبَهُ الوالدين لأبنائهم وبناتهم، جاعلين طفولتهم مُثقلة بمهام فشلنا نحنُ في تحقيقها. والسؤال: هل يحقُّ لنا أن نُحمّلَ الأجيال القادمة أعباء هزائمنا؟ أليس من الصحيح أن نكتفي بتمكينهم بأدوات أخلاقيّة أساسيّة توضحُ لهم الخير من الشر، والأخلاقي من غير الأخلاقي، حتى يستخدموا هم هذه الأدوات في شق الطريق نحو مستقبلهم، مُستخلصين العبر، مُستنبطين الأدوات الأنجع، وما يتناسب وواقعهم ولحظتهم التاريخيّة وزمانهم المحلي والكوني.

عندما اجتمع الآباء والأبناء داخل الأسوار، وهي حالات تُعدُّ بالعشرات، كان يكفي من جانبي قليل من الاحتكاك بالابن، وثقافة أقل في علم الاجتماعِ وعلم النفس؛ لفهم دوافع الالتحاق بالنضال. حيثُ عزا غالبيتهم نضالهم للرغبة في الالتقاء بوالدهم الذي حُرموا منه لسنواتٍ طويلة، وأن وعيهم الوطني أولَّ ما استمدوه كانَ يصلهم عبر رسائل آبائهم من السجن، ونصوصهم وأيقوناتهم المرسومة والمحفورة على فحم، حيثُ فسروها كأنها آمال وتوقعات الآباء من الأبناء. وضعتهم هذه التوقعات في مسارٍ محتوم، وحسب تقديري فإن ما نسبته 80% من الأسرى كان آباؤهم أسرى سابقين عندما كانوا أطفالًا، وغالباً ما يلتحق الابن بفصيل والدهُ لاحقًا.

ما نسبته 80% من الأسرى كان آباؤهم أسرى سابقين عندما كانوا أطفالًا، وغالبًا ما يلتحق الابن بفصيل والدهُ 

حملت الإنتاجات الإبداعية للأسرى الفلسطينيين محاولات الآباء لإعادة إنتاج مسار الابن ومستقبله، ولإعادة إنتاجه سياسيًا وأيديولوجيًا، والذي فُهمَ لدى الأبناء بكونه انتماءً وطنيًا وهوية. إن هذا الحال تعززت في ظلِ الانقسام الفلسطيني على المستويين الثقافي والتربوي.

حينَ كتبتُ رواية "سرَّ الزيت" التي صمَّم خلالها "جود" بطل الحكاية أن يزور والده في السجن رغم المنع الأمني، فقد منحتُهُ حرية التصرّف في الخفاء دون تدخل والده وبعيدًا عن ضغط الأسرى الاجتماعي؛ فكان أمامهُ خيار إخفاء الأسرى وتهرّيبهِم أو إخفاء الجدار هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى إخفاء الأطفال وتهرّيبهم حتى يزوروا البحر، واختار الثاني شاقًا طريقهُ النضالي بعيدًا عن خيارات والده. لقد أردتُ عرض هذا النص لأصرخ لوقف هذا الملف، أو ربمّا لإنقاذ الطفولة من واقع المشهد الّذي تكرر عشرات المرات، خلال الـ35 عامًا الماضية، مشهد الأب والابن والحفيد في كفنٍ واحد.

لهذا أيضًا جاء الإهداء، إهدائي في كتاب "سرِّ الزيت"، إلى جود حتى يعيشَ طفولته وإلى كلّ الأطفال الذين أصبحوا رجالاً ونساء بالغين قبل أوانهم، وإلى كلّ البالغين الّذين حرمهم السجنُ طعمَ الطفولة.

لم يُهرِّبْ الأسرى من السجن تصوراتهم التربويّة لأطفالهم عبر نتاجاتهم الإبداعيّة وإنما أيضًا أنتجوا أطفالهم بالمعنى الحرفي للكلمة، جاعلين تحرير النطف شكلًا من أشكال إبداع الأسير الذي حوّل هذا التواصل الإلزامي إلى إعادة إنتاج لصموده كأسير، وصمود عائلته وأسرته التي كان كل مولود جديد عندها، هو بمثابة ذهاب لتحرر الابن أو الزوج الأسير.

 مسؤولية المؤسسة الوطنية اقتصرت في هذا الجانب على الإشادة اللفظيّة والإعلاميّة لنضالات وتضحيات الأسرى وأسرهم فحسب  

ومع ذلك فرغم هذه الانتصارات التي حققها الأسرى، فالأسرُ إنجازٌ لا يخلو من المسؤولية، مسؤولية الأب والابن والأم في الدرجة الأولى، ومسؤولية المؤسسة الوطنية اقتصرت على الإشادة اللفظيّة والإعلاميّة لنضالات وتضحيات الأسرى وأسرهم فحسب.

وإنني عندما أشيرُ إلى فئة الأطفال واليافعين من أبناء شعبنا، فإن ثمة العديد من الأدوار يُفترض أن تنجز، وأن تتم الدعوة لها:

أولًا: هناك أهمية لإنجاز دراسات بحثيّة، يُكرّس لها الجهد والمال، وأن تتناول أثر الإنتاجات الإبداعيّة للأسرى على أبنائهم، وأثر غياب أحد الوالدين في الأسر على واقعهم واختياراتهم المستقبلية، وأن تكون جزءًا من دراسات الماجستير والدكتوراه في مجالي علم النفس وعلم الاجتماع.

ثانيًا: تخصيص الميزانيات والاهتمام النفسي والاجتماعي اللازم لمتابعة فئة الأطفال واليافعين، وتقديم إرشادات تربوية للأم والأب، وتحرير أوراق إرشادية لتُعين الأسرى على لّعب دورهم كمُربين بما يتناسب مع ظروفهم ومستوى الوعي الثوري التربوي تجاه أطفالهم.

ثالثًا: متابعة الاحتياجات القانونية والمطلبية أمام الاحتلال وإدارة السجون بما يحقق تواصلًا أكبر وأكثف بين الأسير وأطفاله، وأن يكون تواصلًا نوعيًا عبر مناخ لقاءات أفضل ولوقتٍ أطول، بوتيرة أعلى.


اقرأ/ي أيضًا:

رسائل صغيرة كبيرة!

سجن النقب الصحراوي.. أحلام بالثلج!