24-فبراير-2018

تصوير حازم بدر - (Getty)

كأنها تجلس بجوارك، هكذا يمكنني أن أصف ما تكتبه رضوى عاشور.

في الفصل الثاني والعشرين من سيرتها الذاتية التي عنونتها بـ"أثقل من رضوى"، تتحدث الأستاذة الجامعية، الأم، الكاتبة والناشطة السياسية، عن المدرسة الفرنسية التي درست فيها كطفلة. وبين ما تشاركه مع القارئ من ذكرياتها كطالبة في مدرسة يُمنع طلابها من التحدث إلا بالفرنسية، وبين وصفها الدقيق لموقع المدرسة، تأتيك بتفاصيل عن ثورة هذا المكان؛ بين أيام مضت وأيام ثورة (25 يناير)، تقول: 

"أردت الخوض في هذا الحديث لأنني أريد لسلمى سعيد؛ وهي تلميذتي التي أطلقت عليها المجنزرة ثلاث طلقات خرطوش، في كل خرطوشة منها ستون بلية أصابت وجهها واستقرت في ساقيها، أن تعلم أنها أصيبت بالقرب من بيت عرابي، وأريد لأولادها من بعدها أن يعرفوا أن أمهم وهي صبية بالعشرين أُطلق عليها النار في هذا المكان، وأريد أن لا ينسى أولادها ولا أحفادها ولا أحفاد أحمد حرارة ومالك مصطفى وماري دانيال وأشقاء جابر صلاح، أن أهلهم والمئات غيرهم ممن استشهدوا أو أصيبوا في هذا المكان، كانوا وهم يصنعون تاريخًا جديدًا، يتواصلون مع تاريخ لم يحكوا لنا عنه، أو حكوا حكايات منقوصة".

تضيف بعدها أنها أرادت أن تقول روايتها عن المكان، حتى لا يأتي يوم تقام فيه عمائر عالية، فنادق أو شركات، أو قاعات للألعاب الرياضية، يتردد عليها ناس يجهلون عن قصد أو غفلة أن هذه العمائر قائمة على أراض روتها دماء، دماء كثيرة.

لقد وضعت السيدة التي تعرف جيدًا كيف تكتب المكان يدها على قلبي، جاءت كلماتها على مقاس خوفي تمامًا، فقلت لها، هي التي تجلس بجواري، من أجل هذا أخاف عمائر رام الله العالية!

بين الحنين للماضي، والخوف من مستقبل خالٍ منه، يصبح الشارع الذي سقط فيه الشهيد مثل غرفته، علينا أن نتركه كما هو وفاءً له، وإرضاءً لحنينا أيضًا

أن ترى الشهداء يسقطون في أماكن تعرفها أو مررت بها، هذه قصة أخرى يصبح فيها المكان عقدةً شائكة من المشاعر غير القابلة للمس أو الحديث. فبين الحنين للماضي، والخوف من مستقبل خالٍ منه، يصبح الشارع الذي سقط فيه الشهيد مثل غرفته، علينا أن نتركه كما هو وفاءً له وإرضاءً لحنيننا أيضًا.

اقرأ/ي أيضًا: "شهيد".. عندما تغريك الكلمة بالموت

الخوف من نسيان من قتلهم الاحتلال أكبر من الخوف من الاحتلال نفسه، هكذا تكون المقاومة ربما، لذلك نتعلق بالماضي، ليس بشهدائه فقط، بل ببساطته، بل نسعى إلى هذه البساطة أحيانًا كأداة قتال، فالتراث مثلاً بأكلاته وملابسه وموسيقاه، ليس فقط حنينًا ساذجًا للماضي، وإثباتًا للتاريخ وتوثيقًا له، بل هو أيضًا طريقتنا في القتال من أجل مستقبل نريده، هو تذكير بالقيمة المعنوية لأشياء قد تسلبنا الحياة الحديثة، إحساسنا بها وبما تمثله، هي حرب مشاعر إذًا.

وبين تطور الحياة من حولنا، ورغبتنا في ملاحقة هذا التطور، بل وخوفنا من أن يكون تأخرنا عن هذا التطور سببًا من أسباب هزيمتنا، فإننا نخاف أيضًا أن يكون لهذا التطور يدٌ في هزيمتنا، كأن نغرق فيه ونتورط في التزاماته، فتتغير همومنا وتتبدل أولوياتنا، فننسى من نحن بالأساس، وماذا نريد!

أعلم أن التطور ليس مجرد عمائر عالية تُغير شكل المكان، وأعلم أن التعلق بالماضي أحيانًا لا يجلب ما نتمناه، وأنه وحده لا يكفي، ولكن العمائر العالية وسوق الاستهلاك الذي يكبر لمجرد رغبتنا بالاستهلاك والهوس بالبضائع العالمية حتى لو كان مصدرها الاحتلال أمرٌ مرعب! من أجل هذا أخاف عمائر رام الله العالية وأسواقها الفخمة، ليس لأنها قد تكون إشارة للنسيان، بل بسبب خوفي من أن تكون إشارة إلى تغير الحكاية أصلاً، وتبدل رغبة أهلها حتى في روايتها، فرضوى عاشور قالت: "المدهش أن الحكايات التي تنتهي، لا تنتهي مادامت قابلة لأن تُروى" وأنا لا أريد أن تنتهي حكايتنا.


اقرأ/ي أيضًا:

قلب حب على صورة شهيد

ابتسامة غير لائقة أمام جثة

مكالمة فائتة من البلاد