27-يناير-2017

منذ زمن، توقفت عن الابتهاج برؤية النساء إلى جانب الرجال في تفاصيل الحياة التي يفترض بها أن تكون عادية. ولمَ البهجة! بل وقررت أنّ أيَّ ابتهاج بما تقوله المرأة أو تفعله، ما هو إلا تبخيس منها. وأنّ المعاملة الدرامية للأحداث العادية لمجرد أن من قامت بها امرأة، هو أمرٌ غير لائق ويفتقر إلى الذوق أيضًا. 

    لا يمكنك أن تتخيل كم نحن حساسون ومهووسون عندما يتعلق الأمر بالنساء، أقصد بأجسادهن على وجه التحديد    

إذا أردت أن تكتب شيئًا ويلتفت الناس له ويقرؤوه، عليك أن تختار كلمات معينة تستهل بها حديثك. كلمات تثير الفضول وتجلب الانتباه وتزيد التركيز وتوسع بؤبؤ العين، وهل يفعل ذلك أي كلمة سحرية مثل النساء؟ لا يمكنك أن تتخيل كم نحن حساسون ومهووسون عندما يتعلق الأمر بالنساء، أقصد بأجسادهن على وجه التحديد. فعندما تقول الكلمة في مكان عام ضمن نقاش مع أصدقاء سيلتفت زبائن المطعم إليك كأنّك تحاول تمرير فيلم إباحي. فكلُّ النساء بالنسبة لنا مشاريع لأفكار وتخيّلات جنسية حتى في أصعب الأوقات.

اقرأ/ي أيضًا: قتل مباح.. قتل محظور!

في الحروب مثلًا، مهما كانت القصة وراء صورة المرأة مؤلمة، فإنّ جسدها لطالما كان أقوى من الوجع الذي يملأ وجهها أو الفكرة التي تحاول قولها. لذلك انهار الكثيرون أمام صور فتيات الحجارة في موجة المواجهات التي شهدتها فلسطين في تشرين أول/اكتوبر عام 2015 مع قوات الاحتلال. وعبّروا عن سخطهم من البناطيل الضيّقة والشعر المفرود وطلاء الأظافر والحجاب "النص كم" في تعبير عن أنّه حجاب غير مستوفي الشروط.

وفي مصر لم يشفع للفتاة المصرية التي لُقبت فيما بعد بـ "ست البنات" ألمها ولم يُنجها ما تعرضت له من سحل من قبل العساكر في أحداث رئاسة الوزراء من الانتقادات والشتائم. فقد التفت الكثيرون إلى حمّالة صدرها الزرقاء التي ظهرت بعد أن تفتحت أزرار عباءتها السوداء جراء سحل العسكر وركلهم لها، وكان لون الحمّالة وقتها هو أكثر ما لفت المصريين في الخبر.

أمّا في سوريا فلطالما انتشرت صورٌ معدلة تظلل شعور ورقاب أمهات يحضن أبناءهن ويحاولن حمايتهم من الموت غرقًا بعد أن نجحن بالفرار من الموت تحت الرصاص.

اقرأ/ي أيضًا: المرأة الغزية والوجه الآخر لتحدي أزمة الكهرباء

ليس هذا ما أريد قوله، كنت فقط أريد أن أحدّثكم عن السذاجة التي ملأت وجهي عندما وقعت عيناي على صورٍ لجنازة شهيدة فلسطينية ابتسمت ابتسامة عريضة عندما وجدت أن الجنازة حظيت بذات المراسم الشعبية والوطنية التي يحظى بها الشهداء الذكور. أكتب هذا وأنا أفكر: أي مسخ يسكنني ويجعلني أفكر بأهمية المساواة أمام الموت؟ أنا التي أهرب من صور الموت وأخاف أن تمر أمامي خشية أن تحدث اللعنة مجددًا، ويُعيد الموت نفسه في مكان أخر مع ضحية جديدة، ابتسمت.. نعم ابتسمت!

نادمة على ابتسامتي وطلبت من الفتاة صاحبة الجنازة السماح ولا أظنها فعلت، فأنا لا أستحقه. بماذا أبرر لها خطيئتي؟ بأن المجتمع يضطهد النساء وأنني عندما وجدت العدالة في صور موتها ابتسمت! وأنني ورغم كرهي لجنازات الشهداء لما فيها من شعارات ورايات سخيفة جدًا أمام جسد إنسان لا يتحرك، إلّا أنّ هذه الفوضى والتدافع والأصوات العالية أمام جسدها أصابتني بالرضا لأني أعتقدت دائمًا أنّ هناك اختصارٌ متعمدٌ لجنازات الشهيدات، لأنّهن نساء!

لطالما ضايقني الذين ينشغلون عما تعرضت له الضحية بالحديث عن ضرورة سترها لجسدها. أو يتجاهلون الفكرة التي تدافع عنها

لطالما ضايقني الرجال والنساء الذين ينشغلون عما تعرضت له الضحية بالحديث عن ضرورة سترها لجسدها. أو يتجاهلون الفكرة التي تدافع عنها، أو يستخفّون بما تقوله لمجرد أن طريقة لباسها لم تعجبهم، أو لا يلفتهم الوجع الذي تمر به، ويركزون في المقابل على مدى حرصها على الظهور بمظهر محافظ ومحتشم حتى لو كانت تعيش أوقاتًا وظروفًا صعبة. ولكني أظن أني فعلت مثلهم تمامًا. فإذا كان هوسهم بالجسد صرف انتباههم عن الموت فقد صرف انتباهي عن الموت هوسٌ أخر.
 
يقول الكاتب جبرا إبراهيم جبرا: "كل واحد منكم. مسيح ويهوذا معًا" نعلم هذا يا جبرا نعلم، ولكن المشكلة أن يهوذا الذي بداخلنا ينمو ويكبر باسم ما نعتقده خيرًا، إنّه يأكل أشياءنا الجميلة ويتحدث باسمها، تخيّل! ثم من أين أتينا بهذه القدرة اللئيمة على فعل ذلك بأنفسنا؟ لقد أعمتنا أفكارنا "الجميلة" عن أشياء أهم، لقد أغلقت علينا الكثير من الأبواب التي كنا نرى من خلالها وجوه الآخرين ومشاعرهم.. فما العمل؟

 

اقرأ/ي أيضًا: 

واد صوانيت: سحرُ النّرجس وصدى ابتهالات الرّهبان

الصيادون في غزة.. عُزلة وحربٌ في الظلمات

إسرائيليون يفضحون جرائم جيشهم.. ماذا خلف ذلك؟