17-مارس-2017

باسل, لحظة عناقة الأخير لوالدته..

أوّل ما يخطر لي عندما أرى صور الشهيد باسل الأعرج، هو كتاب تعليم اللغة العربية للصف الأول. الكتاب الذي تغيّر الآن كان يتمحور حول أربع شخصيات أساسية؛ الأم والأب والطفلين باسم ورباب.

كُنّا وقتها نتعلّم العربيّة من خلال قراءة وكتابة الجمل القصيرة التي تصف لنا حياة الأسرة بكل ما فيها من لعب؛ عمل ودراسة. وتبدو فكرة ربط التعليم بتفاصيل الحياة الواقعية بحيث يصبح ما نتعلمه من القصص الخيالية لباسم ورباب، حقيقيًا، ويصبح المجرّد فيها ملموسًا، هي أفضل طريقة لتعليم الأطفال. أمّا باسل فهو أشبه بكتاب تعليمي متكامل للفلسطينيين، لقد أدى كل الأدوار بالنص والصورة، هكذا:

"باسل يشارك في ندوة ثقافية. باسل يواجه الاحتلال. باسل ينشر مقالًا جديدًا. باسل يقطف الزيتون. باسل يتطوع في مبادرة خيرية. باسل معتقل لدى السلطة الفلسطينية. باسل يشتبك مع الاحتلال. باسل شهيدًا". ولو كان لدى باسل المزيد من الوقت لكان للقصص بقية، مثلًا: باسل يلعب مع أطفاله في الحديقة.

حمل خبر استشهاد باسل قسوة مضاعفة على قلوبنا، ليس فقط لأنه الشاب المحبوب، المثقف والمقاوم، بل لأنه باسل الذي عاش الفكرة التي كتب عنها، شارك في المسيرات التي دعا لها، رمى الحجارة مع الشبان الذين تغنّى بشجاعتهم. وكم يبدو هذا شحيحًا في زمن أصبح فيه الحديث عن المقاومة هو المقاومة، والحديث عن الثقافة هو الثقافة.

إن الاشخاص الذين يُعدّون أقدامهم للسير نحو أفكارهم قبل أن يكتبوها، هم أنبياء هذا الزمان وهم قلةُ، ومن أجل ذلك كُلّما خسرنا واحدًا منهم لا نكون قد خسرنا جنديًا شجاعًا بكامل ذخيرته فقط، بل وجولة كاملة في المعركة، جولة من الهمم والأفكار التي كان يمكن أن تلهم الكثيرين، لو أنّها رأت النور.

قد تبدو الأغنية محاولةً للتعامل مع الموت بطريقة أفضل، محاولة لمصادقة هذا الكائن الشرس بحيث لا يكسرنا بينما لا نزال في بداية الطريق

أمّا عن الأكثرية، فهي تفعل ما أفعله الآن، تصف الجندي وتبكي عليه، وتغني له، وهي تعلم أنها لن تكونه حتى لو استطاعت، لأنها لا تريد، أو لأنها تخاف أن تدفع كلّ هذا الثمن من أجل فكرة. ولكن ماذا نفعل أمام الأفكار التي نؤيدها ولا نريد أن ندفع ثمنها؟ لطالما فتح هذا السؤال بابًا من الأسئلة حول أخلاقيّة أن تغازل فكرة وتدعو لها دون أن تكون مستعدًا لتطبيقها والعيش في احتمالاتها ونتائجها، ومن أجل ذلك لا أحب "أجمل الأمهات".

"أجمل الأمهات" هي القصيدة التي تمنيّت لو لم تُكتب، القصيدة التي تحوّلت إلى أغنية واسعة الانتشار بين الفلسطينيين كما هي كل أغاني مارسيل خليفة. وبينما قد تبدو الأغنية للكثيرين محاولةً للتعامل مع الموت بطريقة أفضل، محاولة لمصادقة هذا الكائن الشرس بحيث لا يكسرنا بينما لا نزال في بداية الطريق. محاولة للتصالح معه أو ربما محاولةُ لجعله هيّنًا بحيث لا يكون هو والاحتلال علينا. ورغم منطقية كل ما قد يذكره محبو الاغنية  إلا أنّ كل هذا لا يخفف من ثقل ما كتبه درويش على القلب. هذا الثقل يأتي على دفعتين: الأولى عندما قال لنا درويش أن أم الشهيد هي أجمل الأمهات وهي ليست كذلك. والثانية عندما أسرفنا في حب الأغنية لدرجة الاحتفال بها.

أعترف بأن التعامل مع الموت هو أصعب اختبارات الحياة لنا، ماذا نفعل أمامه؟ حقًا لا أعرف. أيهما  مفيدٌ أكثر لشعب يريد أن يستردّ أرضه، البكاء في الجنازات أم الزغاريد فيها؟ لا أعرف. هل علينا أن نلتف على وجع الموت ونغالبه بالتجاهل لأننا لا نستطيع أن نحمي أنفسنا وأولادنا منه؟ ربما، لكنني لا أعرف. ما أعرفه أن الأغنية التي جاءت في محاولة لتجميل الحزن حتى نقوى على تحمله بات ترديدها مؤلمًا، بل وباتت تذكيرًا حزينًا لنا بأن تجميل مشهد وداع الأم لابنها هو آخر ما يمكننا فعله.

قد يحصل هنا أن نغالي بمشاعرنا وأن نُحمّل الأغنية أكثر مما تحتمل من اللوم والعتاب، ونفترض من تأثيرها كل ما هو سيء. قد نفعل هذا بأجمل الأمهات وبكثير من الأغاني الوطنية أيضًا في لحظة حساسة نشعر فيها بأن هذه الأغاني لا تملؤنا بالعزيمة لتغيير الحال كما يجب، بل تملؤنا بالرضا والفخر بهذا الحال. هذا الحال الذي على الأغلب لا يملك فيه من يدفعون الثمن وقتًا للغناء، فيفعل ذلك جمهورُ واسع يغني للموجوعين عن وجعهم ويغازل دموعهم، ويطلب منهم الاستمرار بالصمود ويحثُّهم على الصبر، ويكون  بهذا أدّى واجبه في هذه المعركة.

تعلّمنا من باسل الكثير، ولكن أهم ما تعلمناه منه هو أن نكون حقيقيين، وأن نكون مسئولين عن الكلمات التي نقولها، وحريصين عليها وكأنها آخر ما لدينا. يبدو هذا مثاليًا جدًا ومعقدًا وكأنّك تطلب من الناس أن لا تتنفس إلا عندما تحتاج لذلك، أن لا تأكل أبدًا إلا عندما تجوع حقًا، أن لا تتحدث بكلمة واحدة لا تقوى على تطبيقها. أن لا تغني أغنية دون أن تكون مستعدًا لتكون بطلها.

حسنًا حتى لو بدا هذا مثاليًا فهذا لا يلغي أنّه واجب علينا محاولة القيام به دائمًا، ففي هذه الحرب كل فعل لا يمكنك أن تلقط له صورة لا قيمة له، لأنّه سيكون عندها مجرّد نص. ثم ماذا عن باسل، ألم يعجبنا جميعًا لأنّه كان نصًا وصورة؟

 


 

اقرأ/ ي أيضًا:

خطاب باسل الأعرج الأخير

بدّك تصير عسكري؟

فلسطين ترثي الباسل