21-يناير-2017

دبابة إسرائيلية خلال الهجوم على سجن أريحا واعتقال سعدات - Getty

كان هناك حاجزٌ عسكريٌ على مدخل أريحا قرب فندق الإنتركونتينتال. هذا كل ما كان من وجودٍ إسرائيليٍ في أريحا، أو هذا ما تحتفظ به ذاكرتي عنه، ربما يعود ذلك لكوني ولدت متأخرة جدًا. أن تولد في سنة 1993 في فلسطين ليس بالشيء الجيد، فذلك يعني أنك ولدت تمامًا مع مولد مرحلةٍ جديدةٍ في البلاد. هذا يعيدني لسامية الصومالية في رواية "لا تكوني خائفة"، التي ولدت في الحرب، وحين تنفست الهواء خارج الصومال ظنت أن له رائحًة غريبة، هذه الرائحة لم تكن سوى رائحة الهواء، الهواء بلا بارود.

أن تولد في هذه الفترة الزمنية يعني ببساطة، احتمالية مصادفة أحد أعضاء السلطة الجديدة مقابل مصادفة أحد جنود الاحتلال هو مائة لواحد. ما زلت أذكر جيدًا بعض هذه الأوجه، في أحد الأيام قدم أحدهم إلى بيتنا، أتذكر في ذلك الوقت إصراري على والدي بالسماح لي دخول الغرفة للسلام عليه، كنت صغيرةً وكان من الرائع لمس أحد وجوه الشاشة حينها، هل كنت إحدى نتاج مرحلة 93 دون أن أدري؟ لا أعلم.

أن تولد في سنة 1993 في فلسطين ليس بالشيء الجيد، فذلك يعني أنك ولدت مع مولد مرحلةٍ جديدةٍ للبلاد

اقتضت المرحلة الجديدة أن تتسلم السلطة زمام الأمور، وتم تعيين والدي من قبلها لرئاسة بلدية أريحا، الذي أنهى دورتين قبل أن يتنبه أبناء المدينة لرغبتهم بتسليمها لأحد أبنائها الأصليين. في مثل هذه الظروف تشكلت ثقافتي الوطنية، ياسر عرفات كان في صميمها، ولسوء الحظ لم تكن مناهج كتب الوطنية تحيد كثيرًا عن هذه المساحة. لازلت أذكر كيف ابتلعت ريقي ثلاث مراتٍ أمام جهر أحد زملاء الجامعة ببغضه لياسر عرفات ونعته بالعميل، كنت كأي إنسانٍ مؤمنٍ يسمع شتم الذات الإلهية لأول مرة! هل كنت نتاج مرحلة 93 دون أن أدري؟ ربما.

اقرأ/ي أيضًا: أزمة "السياق" في تغطية قضايا الخط الأخضر

 لا أذكر أني احتجت في فترةٍ من الفترات لأكثر من كفين لعد شهداء المدينة، وفي حياتي فيها لم أكن يومًا جزءًا من أي نشاطٍ وطني. ولم أشارك في أي مسيراتٍ سوى واحدة، وكانت أمام مقر وزارة التربية والتعليم، اعتراضًا على حجم المواد المعينة لامتحانات التوجيهي. كان لي دورًا رياديًا فيها، كنت ذلك الشخص الذي يقود قافية الشعارات ويصرخ ليردد الجميع خلفه "طاخ طيخ طاخ طيخ، بدنا نحذف التاريخ".  يبدو أني نعم ولدت متأخرة جدًا، ونعم كنت ابنةً مخلصةً لهذه المرحلة، لا زالت تعاني من مقاطعة منتجات العدو التي كانت  تمامًا خارج اعتبارات ثقافتها الوطنية.

حين يتشكل عدوك في خيالك فقط، تهابه بشكل أكبر، كنت أكره أن أرى صور الأطفال والنساء يتحدين جنود الاحتلال بشجاعةٍ فطرية، في الوقت الذي كانت تصل دقات قلبي أقصاها حين أمر عن حاجز على الطريق. كانت صورًا، وهذه المرة حين يتشكل شعبك في خيالك تنعزل عنه أكثر، عدوٌ متخيلٌ يواجهه شعبٌ متخيل.

لكن في داخلي، أريحا كانت دوما هي الخيال، أو ربما صورةً مشوهةً لحقيقةٍ ما، أنقذها من أن تبقى كذلك دبابة ظهرت فجأة في حيّنا، وهي الحادثة التي عكرت قبل 10 سنواتٍ صفو المدينة وحيادها، اختطاف أمين عام الجبهة الشعبية أحمد سعدات. ربما لو اكتسبت معرفتي بأحمد سعدات من  خلال كتاب الوطنية لنسيته، أما ولما حدث أن قام عدوي بهذه المهمة؛ فقد كسبت معرفته للأبد. عدوٌ حقيقيٌ في مواجهة شعب حقيقي، كان هناك أخيرًا جانبٌ في هذه المدينة ليس بمعزولٍ عن الوطن اسمه سعدات.

اقرأ/ي أيضًا:

الأمل فيهم ذروة اليأس يا صاحبي

"خمسة أولاد وعجل"..اختبار القناعات في لحظات حاسمة

"السلطة الفلسطينية".. لنا أم علينا؟