أحببت كتابة غسان كنفاني منذ كانت مقرّرةً في المدرسة. وقتها أُتيحت لجيلي فرصة الاطلاع على مقاطع واسعة من روايتيه "عن الرجال والبنادق" و"أم سعد"، بالإضافة إلى العديد من قصصه القصيرة.
وعلى الرغم من أن عادة المنهاج المدرسي تدمير أية لذة ومعرفة، استطاعت نصوص غسان النجاة من ذلك الفخ، لتحرّض نفوس الطلبة على الرجوع إلى متونه الأصلية، خصوصًا أن مكتبات المدارس كانت توفرها بسهولة، كرمى لغسان الشهيد أكثر من غسان الكاتب.
لماذا يصرّ غسان كنفاني على قوّة هذا الحضور؟ هل لأنّ ما كتبه لم يتغيّر، أم لأنه كتب ما تغيّر؟
مع كتبه أحببته أكثر، فالمقاطع المدرسية الناقصة اكتملت، والفكرة الثورية التي يخالها المرء نوعًا من الأيديولوجيا سيدرك أنّها منظورٌ ثوريٌّ إلى الأدب والحياة.
اقرأ/ي أيضًا: غسان كنفاني.. الإقامة في زمن الاشتباك
لاحقًا، صرتُ مُدرّسًا وقرأتُ النصوص القديمة مع طلبتي الصّغار، وكان لي أن أراقبها عن كثب وهي تفعل بهم ما فعلته بي في السابق. فصرنا نتداول في الصف الروايات والقصص الأصلية، لكي يقرأها الطلبة الأكثر اهتمامًا في بيوتهم، وليعودوا بعد أيام ممتلئين بها، يسألونني عن معسكرات الفدائيين، ويحلمون بأن يكون لهم ما كان لمنصور في "عن الرجال والبنادق"، وما كان لسعد في "أم سعد". وكان عليّ آنذاك أن أعلمهم أولى دروس خيبة الأمل، فأخبرهم بأن بندقية منصور لم تجد متحفًا يحتفظ بها، وأن سعدًا ورفاقه صاروا رجال شرطة يقمعون الناس الذين قاتلوا لأجل حريتهم، بعد معاهدات السلام.
أمّا غسّان، غساني الذي يخصّني، فظلّ صندوقًا سريًّا لا أكفّ عن فتحه بين الحين والآخر، لاكتشف أفكاره المبهرة التي وصل إليها الآخرون متأخرين، ولأستوثق بصورة الكاتب الشجاع.
بين ذلك كله، استطعتُ أن أحبّه أكثر مما أحببته، بعد صورة إنسانية رسمها له مقال لبلال الحسن، تحدّث فيه عن غسان المغرم بعوالم الليل، المواظب على حفلات ملاهي دمشق وبيروت، شاربًا الويسكي بيد ويده الأخرى تداعب إحدى الراقصات.
لا صراع ولا نزاع بين الصورتين، الأسطورة والرجل العادي موجودان في الإطار نفسه.
ترهقني الأسئلة التي لا يكف عن إثارتها: لماذا يصرّ على قوّة هذا الحضور؟ هل لأنّ ما كتبه لم يتغيّر، أم لأنه كتب ما تغيّر؟
ثمة ألف جواب، لكنني أختار منها أنه حاضرٌ ليذكّرنا بأسئلتنا الأولى، أسئلة فلسطين التي تهجّاها سؤالًا سؤالًا.
بدأت رحلته في الكتابة من شعوره الخانق بالعار كفلسطينيّ مهزوم، ومن إحساسه بالذنب الممزوج بالعجز، ثم راح يعالج النكبة داخل إطار اجتماعي، لينتقل منه إلى الفعل، إلى الثورة، ثم يعود وليستكشف الواقع في قدرة أبناء الطبقات المسحوقة على المعرفة الفطرية لعدوهم، في الداخل والخارج على حدّ سواء.
داخل تلك الروايات كانت شخصياته غارقةً في الحوار مع الذّات، وكأنّها تريد أنْ تقول إنّ على الفلسطيني أن يسائل نفسه قبل الآخرين، ليصل بها إلى المواجهة الكبرى مع العدو، والتي سيديرها نصّه الروائي "عائد إلى حيفا".
صاحب السبق في إظهار اليهودي ضحيةً للصهيونية، لا كوحش أو مشوّه، ولا في صورة كاريكاتيرية، كما فعلت الكتابات الأيديولوجية. وهو أوّل من دعا "فتح"، آن ظهورها في البدايات، إلى النقاش. يومها كتب مقالًا بعنوان "فتح مدعوّة للنقاش" متسائلًا عن هوية المشروع الوطني الفلسطيني، وعلاقته بالخط القومي، وعن الثورة.. إلخ. وجاء الردّ منها في كرّاسها الأوّل "فتح تبدأ النقاش" مجيبةً على الأسئلة التي أثارها. وهو أيضًا أبرز من تساءل عمّا يكتبه الصهاينة، وكتابه "في الأدب الصهيوني" هو الأول عربيًا في هذا الباب، حيث تتبّع المشروع الصهيوني منذ كان فكرةً، حتى أضحى استعمارًا. وهو، كذلك، أوّل من كتب عن "شعراء الأرض المحتلة" فأحدث رجّة في الشعر العربي الحديث، وأوّل من نشر رسومات الشهيد ناجي العلي.
بدأت رحلة غسان كنفاني في الكتابة من شعوره الخانق بالعار كفلسطينيّ مهزوم، ومن إحساسه بالذنب الممزوج بالعجز
عمل في أكثر من مهمّة، وقف على أكثر من جبهة، في غسان كثيرٌ من الأوّلات، وفينا انتماء إلى تلك البدايات كلها، لهذا نحن أبناؤه الذين سيظلون يفتقدونه كمن يخنقهم اليتم.
اقرأ/ي أيضًا: غسّان كنفاني.. العودة إلى الدرس الأول
غسان، قلت لك ما قلته لأنني كتبت نصًّا أنهى حيرتي، وأخذني إلى معنىً يرضيني حاليًا، وما أريده منك هو أن تقرأه:
عثرتُ على يدكَ في رثائيةٍ لمحمود درويش
عثرت في معصم اليد
التي في النص
على ساعتكَ سلميةَ الوقت والعقارب
فعرفتُ أن "ما تبقى لنا" وقت للكتابة.
منذها أتدرّب على الكتابة بتلك اليد
منذها أنظر إلى كل ما كتبتُهُ كمسودات
سوف يكون لها أن تكون نصوصًا
حين تسقط قطرات الدم من اليد
على الأوراق
ولا تتخثر.
اقرأ/ي أيضًا: