01-مايو-2018

في العشرين من تشرين الأوّل/ أكتوبر من 1854، في شارلفيل، في منطقة "الأردين" الفرنسيّة، وقبل قرن من مولد حسين البرغوثي في قرية كوبر في فلسطين، عام 1945، ولِد آرتور رامبو، وانحنَى علَيهِ جنِّيٌ بالغ الخبثِ، كما يصفهُ آلان بورير الناقد الفرنسيّ الأدبيّ، هو نفسهُ، أي الجنيّ، من قد يكون انحنَى بعد قرن من الزمان على حسين في مهدهِ قائلاً لهُما: "ولِدت في منتصف قرن الجحيم هذا، ابنًا لعرقٍ ملعون، عسكريًا وفلاحًا! إنّ أبوين لا وجه لهما سيجعلانك تدفع الثمن غاليًا، ثمن مجيئك إلى العالم، أبوك بأن يفجعكَ بغيابه، وأمّك بأن تخنقك بحضورها! قصائدك المتخايلة التي تهفو إلى تغيير الحياة سيحكم عليها بالفشل، إنّها لن تُسمعَ، وبالكاد ستنشر، وأنت نفسك سترمي بها إلى النار أو تجهرَ بإدانتها! متوحِّدًا ستعيش، ولن تكون في حياتك مفهومًا أبدًا، لا من لدن رفاقك وأساتذتك، ولا من لدن شعراء باريس أو المجهولين الذين تلتقيهم في الطرق، وطويلاً كذلك بعد موتك!

لن تفلتَ من اللعنة بأن تتمرّد عليها، أو بأن تهرب من بيتك، وتمتنع عن الدّرس، أو تتخفّى في بزات عسكرية مختلفة؛ دائمًا سأعرف أن أميّزك! أبدًا لن تعرف إلى أين أنت ذاهب. طوال عمركَ، ستختفي في الصّمت الذي لا يزحزح صخرته أحد. عبثًا ستجتاز أوروبا مدفوعًا بمختلفِ التعلَّات، سائرًا في اتجاه القطب الشماليّ، مبحرًا على ظهر جوادٍ في الجبال الإفريقيّة، لتعود إلى الشرق وتدع وجهك يسمرُّ مسفوعًا بالشَّمس.. إنَّني سأنتظرك! ولأنّك غاليت في المشي على قدميك، فسأجعل إحدى ساقيك تبتر؛ ولأنّك طلبت الكثير من الحياة، فسأجعلُكَ تموت شابًا في سنتك السابعة والثلاثين؛ ولأنّك رمتَ المستحيلَ فسأجعلُكَ تعرفُ على الأرض أفظَع عذابات الجحيم، اليأسَ كلّه!".

في آخر حديث له، يقول حسين البرغوثي: "عندي شعور أنّه.. حقّقت شيء من حلم قديم.. أن لا أمرّ على الأرض من دون أن أترك أثرًا ما"

إن البؤس والجحيم لن ينتهيا إلى لا شيء. في آخر حديث له، يقول حسين: "عندي شعور أنّه.. حقّقت شيء من حلم قديم.. أن لا أمرّ على الأرض من دون أن أترك أثرًا ما. أمّا لم يكتمل الأثر، فأنا منذ زمن تنازلت عن فكرة الكمال، لا شيء كامل، لا الذي كتبته ولا ما سوف أكتبه".  عن هذا كتب حسين من قبل في "سأكون بين اللوز"، كلماته عن الأثر والحلم القديم: "خسارة أن تولد في زمن مهزوم، بوعي مهزوم وخائف.. خسارة يا ابن هذا الإرث العظيم". لكن الأثَر باقٍ، كأثر الفراشة لا يُرى ولا يزول، كأثَرِ "فصل جحيم" رامبو، و"إشراقات"، هو أثر "سأكون بين اللوز" و"الضوء الأزرق"، الكتاب الذي وصفه محمود درويش بأنّه "كتابٌ فريد من نوعه في الكتابة العربية، ولعلّه أجمل إنجازات النثر في الأدب الفلسطيني".

اقرأ/ي أيضًا: عن حسين البرغوثي: اللهم فلتشهد! وليشهد الجبل!

"العابرُ الهائل"، هكذا وصفَ ستيفان مالارمه، رامبو، وفي هذا الوصف يتلخَّص بصورةٍ بليغة ومكثَّفة هذا النّوع من الحضور الكثيف العابر السّريع الذي يشبه وميض البَرقِ، لكلّ من رامبو وحسين البرغوثي. كلاهما كان متمرِّدًا بطريقتهِ الخاصّة، كلاهما كان "عبورهما هائلاً"، حتى لكأنّهما ظاهرتان ثقافيّتانِ تفصِل بينهما مئة عام، لكنهما جاءا بنفَسِ التمرُّد ذاتهِ، برُوح اللاعاديّة ذاتها، وبالرغبةِ العنيفة بالابتعادِ والبحثِ في المجهولِ ذاتها.

سافر حسين إلى الشمال، إلى هنغاريا التي وصفها بالتجربة التي تشبه أن تكون انفصام شخصيّة: "دمج ما بين شرق وغرب، لغات أجنبيّة، عادات أجنبيّة، وصرتُ أجنبيًا بالنسبة لنفسي أيضًا". وسافر رامبو إلى الجنوب، إلى عدن واليمن وأرض العرب، إلى الصحراء، حيث لقِّبَ بـ"عبدو رنبو"، الاسم الذي استخدمه لمعاملاته التجارية مع القبائل العربيّة في ذلك الزمان.

حسين البرغوثي: "أنا إنسان بسيطٌ جدًا يساء دائمًا فهمه، ولهذا كنت دائمًا على الهامش، هامش الحياة والكلام"

كان الجنيُّ يهمسُ لهما بسوء الفهم مع العالم ذاتهِ في ترحالهما الدائم. "أنا إنسان بسيطٌ جدًا يساء دائمًا فهمه، ولهذا كنت دائمًا على الهامش، هامش الحياة والكلام"، حسين. "ستظلُّ ضبعًا، إلخ"، كان يهتفُ الشيطان الذي توّجني بخشخاشاتٍ بالغة اللطافة"، رامبو.

اقرأ/ي أيضًا: ساعة غسان كنفاني

كانت روح الشاعر المتحدِّية، الرافضة لكلّ ما هو عاديّ، الهاربة من كلِّ ما هو اعتياديّ، التي رفضت القوالب الجاهزة، ونادت بـ"الحرية الحرّة"، وباللغة الشعريّة الجديدة، الباحثة عن المجهول في مجاهيل الكلام واللغة والروح والثقافة؛ كانت هذه الرُّوح ما دفعت كليهما إلى حيثُ كان مصيرهما البائسُ المتشابه، ومصير لغتهما الشفّافة الواضحة، التي تحملُ في داخلها تلك المجاهيل مكتوبة نقيّة من كلّ شائبة، في خلودهما في الذاكرة.

في مكانٍ ما، في زمانٍ ما، تشبُّ روح النار في جسَد وروح إنسيّ، هو ذلك الذي يذهبُ أبعد من الآخرين. إلى مكانٍ قصيٍ يذهب ليعود منه بشيء آخر، "آخر" تمامًا، ليس كالذي ألِفَه وألِفه الناس من حوله من قبل، شيءٌ يشبه رحلة ذلك المسكونِ بالرحيل في كتاب "حجر الورد"، الذي أتخيّله أحيانًا رامبو مرتحلاً في خيال حسين في بخارى وطنجة وبلاد المغرب.

بالنسبة لي، حسين هو اللغة الشفّافة الخارجة عن المألوف، الكارهة للعاديّ بما فيه عاديّته، جاء كنبيّ ورحل كنبيّ، عابر هائل، ملاك منفيّ، ولأنه كان كذلك، فقد عاشَ كذلك ولم يكن منتميًا في زمن من الأزمان. وكذلك كان رامبو، وكذلك أراه، بوجهه المسمرّ بشمسِ عدن، وساقه المبتورة من فرطِ الترحال والأمراض، عائدًا إلى باريس، إلى مسقطِ رأسه، يصارع المرض، ويكتب رسالتيّ الرّائي إلى أستاذه الذي لا يزال متحجِّرًا بآرائه الشعرية البالية ولغته الشعرية الجامدة. يحلمُ بكومونة باريس وصرخاتها ومتاريسها، كما يحلم حسين ببداياته في الدير الجوّاني، وصرخاتِ الأطفال الأشباحِ في اللّيل، وأفعى تتلوّى وتتراقص في سماء كوبر السوداء.

شيء من ماء ونار لغتهما، أسئلة متفجّرة بالذهول، عقل منفتح على الماوراء، ما وراء البحر، وما وراء الجبل، وما وراء اليابسة وما وراء الشّمس. تلكم هي لغة من عاش في ليل سياتل ردحًا طويلاً من الزمنِ متأمّلاً بالمجهول، يحادثُ صديقه "برّي" ويبحثان معًا عن شبَح الجنون في عقل حسين، في رقعة الشّطرنج والحجارة المتناثرة من حولها، والمتأمّل في حجارة البتراء وما تحمل من تاريخ قد أخرِجَ منه، حتى صار من "مواليد خارج الزمن"، مقصيًا بإرادة تاريخيّة عمياء وضالّة. "نحن أبناء هذا التاريخ الضالّ.."، يصفُ نفسه وبرّي، ويكتبُ ويكتب ويكتب.

 لم يستطع حسين إكمال رحلته من نفسهِ إلى بداياته، فلم تسعفه قواه أو أنفاسه الممزوجة بدمهِ الحار. ولكن يبقى الأثَر

لم يستطع رامبو إكمال رحلته من عدن إلى باريس، فقد مات في الطريق، كما لم يستطع حسين إكمال رحلته من نفسهِ إلى بداياته، فلم تسعفه قواه أو أنفاسه الممزوجة بدمهِ الحار. ولكن يبقى الأثَر.

"كنت عاقلاً، مثقفًا، وطالبًا في الدراسات العليا، وكل شيء يبدو على ما يرام، وفي الداخل صحراء فيها كائن قاعد على ركبتيه في الفراغ و"يأكل قلبه"، كما يقول شاعرٌ إنجليزي، فسألته: هل هو مر؟ قال: مرٌ جدًا يا صديقي" - حسين البرغوثي.

"ذات يومٍ أجلست الجمال على ركبتيّ: فألفَيتهُ مرًا، وشتمتهُ" - آرتور رامبو.

المرارة ذاتها تخطُّ نفسها في كلمات تتباعدُ هذا البعد كلّه، وتقتربُ ممّن جلسَا وانتظرا الحقيقة تعرضُ لهما نفسها في أيّ صورة. في أيّامه الأخيرة، سأل حسين، درويش، عمّا إذا كان الجماليُّ في الشعر يحدُّ من الرؤية؟ ولم يمهل الشاعر وقتًا للإجابة عن السؤال الصعب، أو لم يمهلهما السرطان نفسه وقتًا، ورحل حسين وهو لا يزال يحملُ في عقلهِ المتفجّر بالأسئلة، سؤاله الأخير، عن الرؤية.

لم يكن حسين البرغوثي معلّمًا، كما يحبُّ أن يُلقّبه البعض، ولم يكن نبيًّا أيضًا، بل كان "فتى مطلق التوحُّد.."

لم يكن حسين معلّمًا، كما يحبُّ أن يُلقّبه البعض، ولم يكن نبيًّا أيضًا، بل كان "فتى مطلق التوحُّد.."، على حدّ تعبير الناقد الفرنسيّ في وصف آرتور رامبو، "يطالب في الصحراء – هذه الصحراء التي هي العالم كلّه – بنيل "الحرية في الخلاص"، و"الحقيقة في روح وفي جسد".

لقد عاد حسين في النهاية، واستطاع أن يكمل الرحلة حتى النهاية غير المكتملة تمامًا، وأن يتأمّل في البدايات، وذلك ما لم يستطعه آرتور رامبو الذي خانته الرحلة. إلّا أن خيانة أخرى كانت في انتظاره، كان الرّيف ينتظرهُ، ليس كما كان، بل كما صارَ بعد الرحيل وبعد الابتعاد. "ّذلك الجمال الذي تمّت خيانته.."، وربّما صار هو نفسه، هو الجمال الذي تمّت خيانته. وسيظلُّ جنيُّ رامبو، يخاطبهُ حتى نهاية الزمان، هو ومن يشبهونه: "أيُّها الطفلُ المتمرّد، إنّني أحمل لكَ العبقريّة.. عيناك الزرقاوان تلتفتان بعيدًا عن العالم، وكلامُك نادر. بين أكثر البشر شقاءً، ستكون أنت الأكثر وضوحَ بصيرة. سيكون هناك دائمًا، من دون علم منكَ، أحد لا يقدر على الاستغناء عنك. ستكبر دون انقطاع في ذاكرة البشر".


اقرأ/ي أيضًا:

رقصة الفالس بين شاتيلا وأوشفيتر

بائع يكتب عن بائع

رصيف المدينة: حيز للجنون