15-أكتوبر-2019

صورة توضيحية من معرض في لندن عن الحياة في فلسطين تحت الاحتلال البريطاني

"إن النكبة المزدوجة التي نكبت بها فلسطين خلقت فيها طبقة من الوطنية ليس لها مثيل في البلاد العربية الأخرى. وهي الطبقة الموالية للسلطة الاستعمارية والمناوئة للصهيونية، ومكنت هذه الطبقة من التصدر في صفوف الحركة الوطنية وحق الكلام فيها بسبب كونها ضد الصهيونية فقط، على رغم ما هو ثابت ثبوتًا قاطعًا من أصل البلاء هو الاستعمار وأن السلطة الاستعمارية هي التي كانت ولا تزال سبب هذه الأخطار المفزعة التي تهدد كيان العرب عن تطريق التوسع اليهودي وأن المنطق بقضي بمكافحة الاستعمار وجهًا لوجه باعتبار أنه هو أصل الشر، وأنه إذا اندك اندكت معه الصهيونية وذهبت كأمس الدابر".

كتاب فلسطينيون كان أحد أبرز أهدافهم في الكتابة العامة السعي لتعريف العدو، وتوجيه البوصلة إلى "أصل البلاء"

هذه الكلمات التي دونها محمد عزة دروزة في مجلة العرب عام 1933 في مقالته "تناقض آن لنا أن نتخلص منه"، لم تكن بعيدة عن الكلمات التي دونها أكرم زعيتر -مثال على ذلك مقالاته "استقلاليون" في مرآة الشرق يوم 4 كانون الثاني / يناير 1930، و"مرحبا بالعسف والإرهاق" في مرآة الشرق يوم 19 كانون الثاني/ يناير 1930، "الانتداب" في الصراط المستقيم يوم 25 كانون الثاني/ يناير 1930. ص1، و"الانتداب هو الخصم" في مرآة الشرق يوم 19 شباط/ فبراير 1930، و"ما لجرح بميت إيلام" في مرآة الشرق يوم 5 آذار/ مارس 1930- إذ أن الكتاب الذين شكل زعيتر في نصوصه المستعرضة سابقًا نموذجًا لهم، كان أحد أبرز أهدافهم في الكتابة العامة السعي لتعريف العدو، وتوجيه البوصلة إلى "أصل البلاء". وهو ما سيتحقق عمليًا أول الأمر بتبني تنظيم الشيخ عز الدين القسام له، ومن ثم في ثورة الفلسطينيين الكبرى عام 1936.

اقرأ/ي أيضًا: استعادة من الأرشيف: فعل الجيش البريطاني السافل في حلحول

"بريطانيا أصل الداء ورأس البلاء" مقال كتبه "ص" الذي لم يكن سوى صبحي الخضرا، ونشر في جريدة الجامعة العربية يوم 13 آب/ أغسطس 1930 تعقيبًا على السياسة البريطانية ضد أسرى البراق الفلسطينيين وعفوها عن أحد القتلة الصهاينة. ابتدأ هذا المقال بالقول "اضربوا هذه الصهيونية بأرجلكم أيها الفلسطينيون، وقفوا وجهًا لوجه تجاه بريطانيا العظمى، فإنها أولى بالجهاد وأحق بالنضال، فالصهيونية ليست إلا مشروعًا أثيمًا تشجعه بريطانيا وتحميه بحرابها وترعاه بعنايتها، ترمي من وراء ذلك إلى اضطهاد العرب وإخضاعهم للسيطرة الإنكليزية المباشرة".

وأكد الخضرا من خلال استقراء تجارب تاريخية سابقة ومعاصرة للمشاريع الاستعمارية البريطانية، ما ستؤكده اليوم البحوث التاريخية الحديثة التي بحثت في خلفيات "تصريح بلفور". فكتب "قسمًا، لو لم تكن هذه الصهيونية المجرمة، لخلقت لنا بريطانيا وطنًا قوميًا آخر وآخر، ولتمكنت بذلك من إقامة هذه الحكومة الإنكليزية واغتصاب حقوقنا المقدسة وحريتنا واستقلالنا". تأكيدات الخضرا هذه أعاد تكرارها في غير موضع بلغة أخرى شخص آخر هو حمدي الحسيني، من ذلك ما كتبه في مقالته "نريدها حركة وطنية صحيحة تقاوم الاستعمار من أساسه"المنشورة في الصراط المستقيم يوم 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 1931:

"كيف يجوز لمثل هذه القضية أن تسير في طريق غير طريقها، فتقاتل الصهيونية وتعف عن الانتداب، عفة تخيل إليك أن قضية فلسطين السياسية هي مقاومة الصهيونية، والصهيونية وحدها، أما الانتداب فشيء مسكوت عنه سكوتًا تظن معه إما أنه غير موجود، أو أن الأمة راضية به".

تعريف العدو تحول بالفعل إلى هدف عن سبق إصرار وترصد للكتاب المنادين بالثورة. وتحولت منابر بعض الصحف والمجلات لخدمة هذا الغرض، كمجلة "العرب" التي اقتبس منها مقال دروزة السابق. ولم يكن مقال دروزة المقتبس أعلاه إلا حلقة من حلقات أعاد فيها التأكيد على ضرورة مكافحة الاستعمار، وجهًا لوجه بغير هوادة ولا مواربة.

ويؤكد دروزة تجذر تيار "بريطانيا أصل البلاء"، فكتب في مقالته "أصحاب المصالح الحقيقية يريشون سهمًا استعماريًا جديدًا ليرموا به القضية الوطنية في الصميم":

"وقد ظهر في أفقها [فلسطين البائسة] منذ نحو سنة [كتب دروزة مقالته في 24 حزيران/ يونيو 1933] حركة وطنية جديدة قوية ونشيطة يرمي القائمون بها إلى توجيه الرأي العام العربي إلى خصومة المستعمرين وكفاحهم وجهًا لوجه باعتبارهم أصل الشر ومصدر البلاء؛ بعد أن سلخت فلسطين مدة طويلة وهي تسيغ أن تكون خصومتها للصهيونية فقط، بحيث استطاع المستعمرون أن يقولوا ذلك بصراحة وطمأنينة على لسان لجنة شو، وقد أخذت هذه الحركة الجديدة تشتد يومًا بعد يوم حاملة لواء الدعوة إلى كفاح المستعمر واعتباره الخصم الحقيقي الذي يجب أن توجه إليه الخصومة والكفاح، وقد بدأ أثر هذه الحركة يتغلغل في نفوس الشعب وخاصة في نفوس الشباب فيرددونها ويتلفون حولها".

التيار المنادي باعتبار بريطانيا "أصل الشر ومصدر البلاء" تغلغل في نفوس الشعب، وخاصة في نفوس الشباب، ولم يقتصر الأمر على ترداد القول وإنما ترجم إلى فعل ودم

ختامًا، وبالعودة إلى مقال دروزة الذي افتتحت فيه هذه المقالة، فإن دروزة التقط بشكل جلي التناقض الأبرز الذي صبغ الحركة الوطنية الفلسطينية منذ لحظتها الأولى، وهو تناقض يمكن أن يلحظ في النقاشات المبكرة التي جرت عام 1919 في المؤتمر الفلسطيني الأول المنعقد في القدس، أو النقاشات التي جرت على هامشه. إذ أبرزت هذه النقاشات وجود تيار فلسطيني يعلي الصوت أمام الخطر الصهيوني المتوقع -وهو صوت شجع ظهوره آنذاك بعض الحكام العسكريين البريطانيين- ويسكته عند الحديث عن المستعمر البريطاني.

كتب خليل السكاكيني في يومياته ليوم 6 شباط/ فبراير 1919:

"[الحاج أمين الحسيني وأبو الفضل اسعاف النشاشيبي وخليل السكاكيني، أخذوا يحاولون إقناع الجمعية الإسلامية بالعدول عن قرارها المتعلق بالاقتصار على الحديث عن الخطر الصهيوني ورفضهم لاعتبار فلسطين سورية الجنوبية]، فأخذوا يعارضوننا بأقوال تشف عن اعتقادهم أننا إذا توسعنا في مطالبنا لم نظفر بشيء، فقلنا إذا كنا نعتقد أن لا بد من النزول على حكمهم والرضى بما يرضون، فلماذا نتعب أنفسنا ونعقد الاجتماعات، ونتباحث. إذا كان القصد من اجتماعنا أن نربط رقابنا بحبل، ثم نذهب ونضرع إليهم أن يستلموا طرف الحبل ويقبلوا أن ندخل تحت حكمهم، فوا ذلاه، إذا كان القصد من الاجتماع إبداء رأي الأمة فلتكن لها جرأة وحرية لأن تبدي رأيها الخاص الذي يترجم عن شعورها الطبيعي، فإذا أمكن تنفيذ رأيها فيه وإلا فليعملوا ما يشاؤون، وأما إذا كانوا يقصدون منا أن ننسى أنفسنا، ونتصام عن نداء الوطنية فلا نقول إلا ما يريدون فالأحسن أن نفض اجتماعاتنا، وينصر كل منا إلى شؤون الخاصة، خير لنا أن يحكمونا بالرغم عنا من أن نطلب حكمهم طلبًا، ونسترحم أن نكون تحت حمايتهم استرحامًا، إذا طلبنا أن نكون أحرارًا مستقلين فلم يجيبونا إلى طلبنا، كان ذلك أدعى لاحترامهم لنا على الأقل، وإلا حسبونا من سقط المتاع، ونظروا إلينا كما ينظرون إلى عبيد أذلاء مستضعفين لا شأن لنا ولا قيمة. ثم أخذ الحاج أمين الحسيني يفند آراءهم ويبين لهم مواطن الضعف فيها، ثم قام أبو الفضل وجعل يناشدهم بكل مقدس لديهم أن يعدلوا عن فكرة استقلال فلسطين، الاستقلال التام، وعن اتخاذ قاعدة اللامركزية للحكم، فإن ذلك يعرض فلسطين للخطر الصهيوني، وخير واسطة لدفعه أن ندمج أنفسنا في سوريا، فقال قائل قلنا لا نكون عبيدًا للسوريين لأننا شركاء في الحكم قلنا لا نكون عبيدًا للسوريين لأننا شركاء في الحكم، وهنا قام إبراهيم شماس وقال: يجب أن تعلموا أن الإنكليز هم الذين فتحوا هذه البلاد، وأن الحكومة الآن هي حكومة إنكليزية. فثار ثائر أبو الفضل وقال: إن في سوريا فدائيين يقاومون كل أجنبي، فما كان من أعضاء الجمعية إلا أن انتفضوا وقالوا نحن لا نسمع مثل هذا الكلام وخرجوا. غضبوا من كلام أبي الفضل، ولم يغضبوا من كلا إبراهيم الشمّاس، الذي كان أشبه بالتهديد. إن ذلك نهاية الضعف والجبن فلا حول ولا...".

ستؤكد الأيام أن هذا التناقض سيحسم بالدم، وأن التيار المنادي باعتبار بريطانيا "أصل الشر ومصدر البلاء" كما أكد دروزة تغلغل في نفوس الشعب، وخاصة في نفوس الشباب، ولم يقتصر الأمر على ترداد القول وإنما ترجم إلى فعل ودم.


اقرأ/ي أيضًا: 

أكرم زعيتر.. عن جيش الدفاع

أكرم زعيتر.. بواكير قيامة البنادق

عن انتفاضة السلاح، استعادة لأثر