صدر مؤخرًا ضمن سلسلة ذاكرة فلسطين، أولُ مجلدٍ من يوميات أكرم عمر زعيتر بعد العام 1949، بعنوان "يوميات أكرم زعيتر: سنوات الأزمة 1967-1970"، والتي ستصدر تباعًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
"يوميات أكرم زعيتر: سنوات الأزمة 1967-1970" ستشكل امتدادًا لنصوصٍ سابقة نشرها زعيتر قبل وفاته، اعتمدت على يومياته ومجموعته الوثائقية النادرة
هذه اليوميات ستشكل امتدادًا لنصوص سابقة نشرها زعيتر قبل وفاته، اعتمدت على يومياته ومجموعته الوثائقية النادرة. وهي نصوصٌ مؤسِّسةٌ ومصدرٌ أوليٌ مركزيٌ للتأريخ لفلسطين أثناء الاستعمار البريطاني لها. فبالإضافة لـ"بواكير النضال من مذكرات أكرم زعيتر 1909-1935"، وكتاب "من أجل أمتي، من مذكرات أكرم زعيتر 1939-1946" التي صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، أصدر "الحركة الوطنية الفلسطينية 1935- 1939: يوميات أكرم زعيتر"، وكذلك "وثائق الحركة الوطنية الفلسطينية 1918-1939: من أوراق أكرم زعيتر" عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
تستدعي هذه النصوص جميعًا وقفة متأنية لكل باحث مهتم بتأريخ القضية الفلسطينية عمومًا، وبتاريخ مقاومته للمشروع الاستعماري البريطاني والصهيوني خصوصًا. والأمل أن تسهم هذه السلسلة التي ستبدأ بهذا النص في الإضاءة على قضايا أساسية من هذا التاريخ عبر المدى الطويل التي أبرزها زعيتر.
اقرأ/ي أيضًا: رحلة لم تكتمل: نافذة أولى على تأريخ لم يدون بعد
أولى القضايا التي تبرز في نصوص زعيتر عمومًا، وفي نصوصه المبكرة خصوصًا "بواكير قيامة البنادق"، أو الطريق الذي خاضه بعض الفلسطينيين تحريضًا وسعيًا عمليًا من أجل التهيئة والتعبئة للثورة المسلحة على المستعمر البريطاني في فلسطين. بدأت بواكير هذه المساعي قبل بدء نشاط زعيتر العملي في فلسطين، فخلال سنوات الحكم العربي في دمشق 1918-1920 وجدت مساعي للاستفادة من إمكانيات هذا الحكم للتأسيس لمقاومةٍ مسلحةٍ ضد المستعمر البريطاني في فلسطين، وتأسست لذلك جمعيةٌ باسم جمعية فلسطين مدعومة من جمعية الفتاة العربية، أشرفت على تنفيذ سلسلة من العمليات في شمالي فلسطين المحتلة خلال العام 1920. وكان من أبرز نشطاء هذه الجمعية والمشرفين عليها "محمد عزة" عبد الهادي دروزة (1887-1984) الذي سيعود إلى فلسطين بعد إنهاء الحكم العربي في دمشق وسيطرة المستعمر الفرنسي المباشرة على سورية.
استقر دروزة في مدينته نابلس ليعمل مديرًا لمدرسة النجاح الوطنية، وتزامن ذلك مع وجود أكرم زعيتر طالبًا في المدرسة، تحدث دروزة مستذكرًا زعيتر:
"حينما توليت مدرسة النجاح كان في الصف الاستعدادي الثالث أو الرابع، وكان يبدو عليه ذكاء ونشاط وحركة وتحريك وحماس وطني وبلدي معًا".
سيفترق التلميذ عن أستاذه، بعد توجهه المؤقت إلى بيروت للدراسة في الجامعة الأمريكية، لكنه سرعان ما سيعود إلى فلسطين لينشط في التدريس والكتابة الصحفية والخطابة، وليدون يوميات تؤرخ لتطور موقفه من الاستعمار البريطاني، وحكايته لبواكير انتفاضة البنادق.
عين زعيتر -كما تشير وثائق تعيينه- أستاذًا في المدرسة الهاشمية للذكور في نابلس، بدءًا من الأول تشرين أول/ أكتوبر 1925؛ كتب مدير مدرسة الهاشمية في تقريره السري يوم 16 تموز/ يوليو 1926 "هذا المعلم مواظب ونشيط، مرضي الأخلاق، [.....] الماه في العلوم حسن كثير المطالعة محب للتجدد". وفي الأول من آب/ أغسطس 1926، نقل زعيتر إلى المدرسة الصلاحية في نابلس، لكن حال زعيتر لم يرض مفتش المعارف، فكتب في تقرير إثر زيارته لزعيتر في الأول من تشرين الأول 1927: "نزق الطبع، ثرثار، وقد نصحت إليه أن يحسن عقليته وسيره، والأمل أن يتحسن". وفي 6 آب/ أغسطس 1927 كتب المفتش "يقال أنه يخابر جريدة الشورى بمصر، وقد نصحت إليه أن يبتعد عن ذلك".
ثورة البراق شكلت لحظة فاصلة في مسار زعيتر التحريضي نحو قيامة البنادق
طلب زعيتر نقله إلى القدس لاستكمال دراسته في الحقوق، لكن بدلاً من ذلك جاءه قرار بالنقل إلى مدرسة ذكور عكا الثانوية في تموز/ يوليو 1927، وهناك دون عنه المفتش، "[بأن طريقة تدريسه] خطابية ورغمًا عن ضعف بصره فهو مجد، ولكنه هائج العواطف، سريع التأثر، عصبي المزاج، قليل الموفقية، رغمًا عن أن التلامذة تميل إليه". هذه الصلة الحسنة مع التلاميذ تتضح بشكل جلي من مراسلات تلاميذه اللاحقة له، ومن تفاعلهم معه، خصوصًا بعد ثورة البراق في آب/ أغسطس 1929 التي ستشكل لحظة فاصلة في مسار زعيتر التحريضي نحو قيامة البنادق.
"أيها الطلاب؛ كنتم تنشدون اليوم صباحًا أمام أستاذنا [خليل] السكاكيني: يا ليوث الوغى خصمنا قد طغى. أجيبوني بصوت واحد: من هو خصمكم الذي طغى؟. فدوى صوت الطلاب الجهير وكأنه الزئير: الإنكليز الإنكليز. وهنا التفت إلى الأستاذ السكاكيني قائلاً: أرأيت يا أستاذ كيف أن الطلاب يعرفون خصمهم وينشدون عن وعي، وقد ألوا على أنفسهم أن يقارعوه! أيها الطلاب ثانية من هم أعداؤكم؟ فجاء الجواب كقصف الرعد: الإنكليز."
اقرأ/ي أيضًا: رحلة لم تكتمل: في ضرورة التأريخ للراهن
سبق هذا الخطاب الذي شهدته عكا اندلاع الثورة. ومع تداعيات الثورة قرر زعيتر تقديم استقالته من إدارة المعارف، بعد يوم 6 تشرين الثاني/ 1929. برر زعيتر هذه الاستقالة برغبته في إكمال تعليمه الذي وقفت إدارة المعارف معترضة عليه، برفضها نقله إلى القدس وقيامها بنقل زعيتر إلى عكا. لكن زعيتر كان قرر أن يتفرغ للعمل الصحفي بالإضافة لدراسته الحقوق في القدس، وليتولى بعد وقت قصير تحرير صحيفة مرآة الشرق، التي ستشهد تحولاً هائلاً في خطابها السياسي، بعد تفرد زعيتر بذلك بدءًا من العدد 664 الصادر في 4 كانون الثاني/ يناير 1930.
بدأ زعيتر في الكتابة اليومية في صحيفة مرآة الشرق، وكان سبقها نشره عددًا من المقالات في جريدة "اليرموك" تحدث فيها عن تداعيات الثورة، لكن كتابات زعيتر في "مرآة الشرق" ستشكل نموذجًا لكتابةٍ تحريضية، سعت لنقل الخطاب التحريضي نحو الثورة المسلحة إلى فعل مباشر على الأرض، ولم يكن زعيتر فريدًا في هذا الخطاب، وإنما كانت نصوصه أحد أبرز نماذجه.
كان نص زعيتر الأول في "مرآة الشرق" بعنوان "استقلاليون!"، أكد فيه زعيتر على ما سيؤكده الشيخ عز الدين القسام ورفاقه في يعبد بعد سنين بالسلاح
كان نص زعيتر الأول في "مرآة الشرق" بعنوان "استقلاليون!"، أكد فيه زعيتر على ما سيؤكده الشيخ عز الدين القسام ورفاقه في يعبد بعد سنين بالسلاح، كتب زعيتر: "لا بأس من توجيه أكبر عناية إلى التخلص من الصهيونية، ولكن الواجب علينا أن لا ننسى الانتداب الذي يظاهرها! وإذا كنا غير قادرين على الظفر باستقلالنا فيجب أن لا يمنعنا ذلك من الجهر بأننا استقلاليون نحيا للاستقلال ونعمل في سبيله".
سيختتم زعيتر رحلته في "مرآة الشرق" بقرار الحكومة الاستعمارية البريطانية، بعد ما كتبه زعيتر في "مرآة الشرق"، بعنوان "جيش الدفاع". وهو المقال الذي أسس لأول محاولة عملية لترجمة الأفكار المحرضة على ثورة البنادق إلى أرض الواقع بمبادرة تنفذ على الأرض. وهذا ما يحتاج لمزيد من التفصيل في نص لاحق.
اقرأ/ي أيضًا: