مخطئ من يعتقد أن انتشار فايروس كورونا يمثل خدمة لفئةٍ عمريةٍ من البشر على حساب فئةٍ غيرها، أو خدمةً لأمةٍ على حساب أمة أخرى، أو لجماعةٍ أثنيةٍ على حساب أخرى، أو لفريق ديني على حساب فريق آخر، أو خدمة لقطاع اقتصادي على حساب قطاع آخر. فالوباء أصاب كل الفئات العمرية من مختلف الشعوب، والجماعات الأثنية، ومختلف أتباع الديانات السماوية وغير السماوية، وشل كل القطاعات الاقتصادية .
مخطئ من يعتقد أن كورونا في خدمته، فالمعركة لا زالت في أولها، وضحاياها السياسيون سيأتون تباعًا
الوفيات كانت من كل الأعمار وكل الجماعات الأثنية والعرقية، وانتشر الوباء في كل الدول والمجتمعات، وتوقفت الصلوات في كل المساجد والكنائس والكنس والصوامع والمعابد، كما توقف الحج لكل أتباع الأديان، وتوقفت السياحة والطيران والفنادق والمقاهي والمسارح وبيوت الدعارة وكل القطاعات الصناعية والتجارية.
اقرأ/ي أيضًا: كورونا في فلسطين: وباء في مستعمرة المستوطنين
مخطئ من يعتقد أن كورونا في خدمته، فالمعركة لا زالت في أولها، وضحاياها السياسيون سيأتون تباعًا، الكبير منهم قبل الصغير، فقد أثبتت كل المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية فشلها في خدمة الإنسانية، وخدمت مصالحها دون أن تخدم مصالح البشر، لذا لن تبقَ تسود بعد هذا الوباء، فكل القيم الأنانية والشر التي سادت من قبلُ ستهزم شر هزيمة، وستعلو قيم العلم والأخلاق والإنسانية والعدالة الاجتماعية والعقل والمنطق على حساب الخرافة والفساد، إن فهمنا الرسالة التي حملها فايروس كورونا.
هذا الوباء حمل رسائل عدة للبشرية، أولها أن الأرض ما عادت قادرة على تحمل عاداتكم وسياساتكم وطقوسكم وأفعالكم الكذابة ونفاقكم المستمر باسم الحرية، تغزون بلادًا وتمزقونها إربًا، وتسرقون خيراتها، وتقتلون شيوخها وشبابها وأطفالها ونساءها، وتفقرون شعوبها وتتركونها خاوية تعاني الألم، باسم الله والدين تقتلون وتذبحون وتفجرون جماعات بريئة وتسفكون دمها.
مدنكم تحولت إلى مرتع للربا والدعارة وتجارة الحشيشة، وأصبحت هذه ليست وظيفة فئة ضالة منكم فحسب، بل هي وظيفة الحكومات تحميها باسم القانون. رأسمالكم توحش وأصبح الغني يأكل الفقير، وقلة قليلة منكم أصبحت تملك بلدًا بأكملها، وتعيش العامة حالةً لم يعشها من قبلُ لا العبيد ولا الفلاحون ولا العمال في كل العصور التاريخية التي سبقت، فقد توحشتم بمالكم وسلوككم بطريقة لم يشهد التاريخ لها مثيلاً.
اشتدت طقوسكم الدينية وضعف إيمانكم بالله من كل الملل، لم تعد العبادة علاقة مباشرة مع الله تدعونه فيستجب لكم، بل حولتموها إلى طقوس وبهرجة. كثيرون منكم اعتبروا أنفسهم وكلاء لله على الأرض، يكفرون من أرادوا، ويعطون فرمانات لمن أرادوا. غلَّبتم الطقوس على الأخلاق، وكأن الدين ليس أخلاق، لدرجة أن البعض الآخر طلب من الله أن يرسل الياسوع قبل تفشي المرض، كأنَّ الله يعمل عندكم، وكل ذلك باسم الدين.
جاء فايروس كورونا ليُعبّر عن غضب الأرض على عهر البشرية وتجارة النساء والمال والسلاح والأطفال وغيرها، فلم يشهد التاريخ أن أغلقت أبواب الدعارة المنظمة وغير المنظمة كما هو الحال، فحتى في أشد الحروب والأحوال قسوة، بقيت الدعارة والاغتصاب والاعتداء صفة لعينة إلى أن جاءت رسالة كورونا وأوقفتها.
جاء فايروس كورونا ليُعبّر عن غضب الأرض على عهر البشرية وتجارة النساء والمال والسلاح والأطفال وغيرها
لم يشهد التاريخ أن أغلقت كل دور العبادة في العالم كما أغلقت اليوم، أغلقت المساجد والكنائس والكنس في أقصى الأرض وأدناها، أغلقت دور العبادة وتوقف الحج لكل الأديان في الشرق والغرب، والملايين ألغيت رحلاتهم الدينية والسياحية والاقتصادية عنوة عنهم، وهم الآن لا يشعرون بسلامتهم إلا في بيوتهم، فهل مرَّ البشر من قبل بمثل ذلك؟
اقرأ/ي أيضًا: القادم كوفيد
تحول البشر إلى شعوبٍ استهلاكيةٍ وغير ومنتجة، فمن ويقف على علو ما ويرى كم المركبات التي تتحرك على الأرض لبدء يوم عمل جديد في نهار جديد، لا يعلم أن غالبية شعوب هذه الأرض لا ينتجون في ذلك اليوم ما يعادل ثمن الوقود الذي تصرفه هذه المركبات. فما بالكم بالمباني والمكاتب الفارهة وثقافة القروض والبنوك؟ فحين تمر لأول مرة في شارع ما، وترى مباني البنوك الفارهة تعتقد أنك ستطل بعد قليل على نهر من النقود السائلة على أطراف المدينة، ولا تعلم أنك تعيش كذبة المال الكبيرة، حيث أغنى الدول أكثرها ديْنًا للآخر وسطوة.
كنا نحصي كل عام كم هو أسطولنا الجوي والبحري والبري، وكم لنا من الجيوش والقواعد العسكرية وأجهزة الأمن والمخابرات المنتشرة في كل أنحاء العالم، ولم يخطر ببالنا أن نحصي كم سرير لنا، وكم مستشفى، وكم جهاز تنفس اصطناعي، وكم طبيب، وكم علبة دواء، فالأمن أصبح أهم من الصحة. ولم نحصِ يومًا كم مريض سرطان في أعظم وأغنى دولة في العالم اضطر أن يبيع منزله كي يتعالج كونه لا يملك المال لعلاج نفسه، بينما استعاد أسطولٌ من الطائرات رجل أمن أصيب بنشاط أمني على بعد محيطين وأعيد لنا حيًا سليمًا.
لا شك أن سلوكنا البشري أغضب من يجب أن يغضب في معتقداتكم، وجاء الوباء ليحمل لنا رسالة مفادها أن الزموا بيوتكم، هذبوا أخلاقكم، اشعروا بفقرائكم، ترابطوا، تفاهموا، أعيدوا قراءة أنفسكم، ابتعدوا عن الخرافات، امنحوا العلم الذي ينتفع به البشر قيمته، فالأرض ليست بحاجة إلى ضجيجكم ونعيقكم، والله ليس بحاجة إلى كل طقوسكم على حساب أخلاقكم، ليس بحاجة لمن يصلي ويسرق مال اليتم وميراث أخته، وليس بحاجة إلى من يحج وجاره جائع، وليس بحاجة إلى كل ذلك، فهو -إن كنتم تؤمنون بما تعتقدون- أقرب إليكم من حبل الوريد، إن رغبتم ناجوه، حدثوه، ادعوه، لكنه ليس بحاجة إلى مبالغاتكم في طقوسكم، ليس بحاجةٍ إلى ثلاثين مسجدًا في بلده صغيرة يكفيها مسجد واحد، وطرقها معثرة، ولاعيادة طبية فيها، وهو ليس بحاجة إلى نشر قيمكم في الحرية والديمقراطية على ظهر دبابات تطحن الأطفال، فالرسالة يبدو أنها لا تستثني أحدًا من البشرية.
لا شك أن سلوكنا البشري أغضب من يجب أن يغضب في معتقداتكم، وجاء الوباء ليحمل لنا رسالة مفادها أن الزموا بيوتكم، هذبوا أخلاقكم، اشعروا بفقرائكم
أوصل الوباء رسالته أيضًا إلى المحتلين: أنتم لستم بحاجةٍ إلى أسوار عالية تفصلكم عن الآخرين، ولستم بحاجةٍ لأن تفرضوا حظر التجول وتصادروا الأرض، فقد اضطررتم لأن تهدوا الأسوار بأيديكم كي يصلكم العمال إليكم. إذن، عليكم أن تفهموا أن الأمن لا يتحقق بالقوة بل بالعدل ورد الحقوق إلى أصحابها.
فايروس كورونا رسالة وليس وباءً فحسب كما تعتقدون، إن قرأنا المعادلة بشقيها، رسالة كان الخوف فيها أشد من الخطر، فما خسرتموه حتى الآن لايعادل عدد القتلى في حروب غزة أو سوريا أو العراق أو اليمن أو أي بلد آخر، ولا يعادل ما يموتون بحوادث السير التي قل تسببها بتسجيل ضحايا منذ التزمنا بيوتنا، لا تعادل نسبة قليلة ممن يموتون بالانفلونزا العادية أو نتيجة الفقر في أفريقيا أو الجريمة في بلدان كثيرة، لكنه يحمل رسالة تقول لنا: عودوا إلى رشدكم، ابقوا في بيوتكم، واصلوا العمل والإنتاج، غيروا سلوككم الاستهلاكي، ارفضوا الذل والهوان والاستغلال، امنحوا العلم قيمته، انبذوا الخرافة، ثقوا بربكم، حافظوا على أخلاقكم، اشعروا بالفقير، انشروا العدالة في بيوتكم ومجتمعاتكم، ولن تروا بعد ذلك كورونا.
اقرأ/ي أيضًا: