24-مارس-2020

لا يبدو أن فوارق جوهرية لصالح الأنظمة الديمقراطية على غير الديمقراطية في مواجهة مرض كورونا، فإيطاليا الدولة الديمقراطية عاشت ذات الظروف والملابسات التي عاشتها جمهورية الصين الشعبية، الدولة الاستبداية في نظر الغرب، من حيث حجم الإصابات والوفيات نتيجة انتشار وباء كورونا.

كان للأدوات التي استخدمتها الحكومة الصينية تاريخيًا لوضع المواطن الصيني تحت المجهر دورٌ حقيقيٌ في ملاحقة المرض وقطع سبل انتشاره

لم يعكس النظام الديمقراطي الإيطالي نفسه بأداءٍ أفضل من الصين في مكافحة المرض، بل كان للأدوات التي استخدمتها الحكومة الصينية تاريخيًا لوضع المواطن الصيني تحت المجهر دورٌ حقيقيٌ في ملاحقة المرض وقطع سبل انتشار كورونا، والسيطرة عليه باستخدام موارد الدولة التي تتحكم فيها بعد أن كاد الكورونا يستفحل في الصين وينهي اقتصادها، لكنها جيَّرت كل إمكانيات الدولة، ومن ضمنها أدوات الرقابة المنتهكة للحقوق الشخصية لمكافحة المرض، ونجحت بأدواتها كما يبدو حتى اليوم في هزيمة كورنا، وشكلت نموذجًا عالميًا في مكافحة الفايروس.

اقرأ/ي أيضًا: الكرنتينا: تاريخ الحجر الصحي في فلسطين

الحال الذي تعاني منه إيطاليا، تعاني منه بلدان غربية أخرى لكن بشفافية أقل، فلم يكن أحدٌ يتوقع يومًا أن تتحول نيويورك إلى مدينةٍ عسكريةٍ يسيطر بها الجيش، وأن تشل الحياة في باريس ولندن وعواصم عالمية كبرى بفعل مرض معدٍ ما يزال مصدره مجهولًا، إن كان بفعل الطبيعة أو بفعل البشر كما يروج البعض، لكنه وبغض النظر عن مصدره هو أخطر حرب عالمية تخوضها البشرية في العصر الحديث، فهو يختلف عن الحرب العالمية الأولى والثانية بامتداده على كافة مساحات الأرض قاطبة مرةً واحدة، كما أنه ليس حرب جيوش مقابل جيوش، بل حربًا جماعية داخل المجتمع ككل محركها الفرد، الفرد هو من يقرر نجاة نفسه أو هلاكها وليس الآخرون هم من يقرروا مصيره، لا تحتاج الشعوب في هذه الحرب إلى ملاجئ تحت الأرض بل يكفي عليها أن تعتزل في منزلها لحماية نفسها من الحرب وحماية الآخرين.

الحرب العالمية البيولوجية التي نعيشها اليوم تفوق مخاطرها مخاطر الحرب العالمية الثانية، صحيحٌ أن الجيوش فيها لن تنكسر كونها ليست في مواجهة جيوش ستهزمها، لكن أنظمة اقتصادية عظمى قد تنهار.

الحرب العالمية البيولوجية التي نعيشها اليوم تفوق مخاطرها مخاطر الحرب العالمية الثانية

سيكتشف العالم خلال الأسابيع القليلة القادمة أن كورونا هو مرض وحشية النظام الرأسمالي. فتركيز الاقتصاد العالمي بيد فئة قليلة من البشر وتجريد الدولة من التدخل في الاقتصاد هو سبب انهيارها بفعل تناقضاتٍ فرضها النظام الليبرالي الرأسمالي داخلها، فقد أهملت هذه المنظومة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين، وتركت فكرة التنافس تتغلغل إلى أقصى مداها في داخل مجتمعاتها، واكتشفت دولٌ عظمى أنها أهملت النظام الصحي وتركته فريسة للتنافس الحر والربح، وتركته للأغنياء يستفيدون منه والفقراء والمهمشين دونه.

اقرأ/ي أيضًا: ما هو سر قوة الفلسطينيين في مكافحة كورونا؟

في المقابل، جالت هذه الدول في العالم للسيطرة على موارده الاقتصادية، نشرت قواعدها العسكرية في كل أرجائه، ودخلت حروبًا فتكت بشعوبٍ ودول عديدة خدمةً لطبقات رأسمالية في داخلها، مرة تخدم قطاع شركات النفط، ومرة أخرى تخدم شركات الأدوية، ومرات عديدة لخدمة شركات الأسلحة، بينما تركت هذه الأنظمة البشرية جمعاء فريسة سهلة لفايروس صغير انتشر بذه السهولة، دون أن تتمكن هذه الأنظمة من بناء نظام صحي متقدم يستطيع حماية شعوبها، فما دفعته من أجل الحروب آلاف أضعاف ما دفعته لصحة شعوبها، وهذا الخطيئة واضحة وهي من دفعت بعض الدول الأوروبية إلى تأميم مستشفياتها، فالعجز الحاصل الآن في قدرة هذه الأنظمة على توفير خدمة الرعاية الصحية شعوبها عانت منه خلال ثلاثة أرباع القرن الماضي شعوبٌ فقيرةٌ في العالم مثل أفريقيا، أو شعوب نهشتها الحروب التي كما هو الحال في منطقة الشرق الاوسط غذتها هذه الأنظمة خلال العقود الأخيرة.

من السابق لأوانه التنبؤ الآن بمصير البشرية بعد كورونا، فكما كان العالم قبل الحرب العالمية الثانية غير العالم بعدها، وكما أن الدماء التي سالت في الحرب العالمية الثانية غيرت قواعد التحالف، وأعادت برمجة التحالفات الدولية، ونجم عن ذلك نظامٌ عالميٌ جديدٌ صاغ مجموعة من المواثيق الدولية الجديدة، كانت الأولوية فيها لتعزيز الأنظمة الديمقراطية في العالم على حساب الحقوق الاجتماعية والاقتصادية.

أعتقد أن الحرب العالمية البيولوجية التي نشهدها اليوم ستغير قواعد اللعبة في العالم لصالح العدالة الاجتماعية، وستصوغ تحالفات جديدة، ستقدم دولاً وستؤخر دولاً، ولا أستبعد أن تختفي دولٌ وتنشأ دولٌ جديدة.

أعتقد أن الحرب العالمية البيولوجية التي نشهدها اليوم ستغير قواعد اللعبة في العالم لصالح العدالة الاجتماعية

أعتقد أن الدول والمجتمعات التي بنت نظامًا اجتماعيًا اقتصاديًا لشعوبها هي الأقدر على الصمود، فقد بنت نظامًا صحيًا قادرًا على التجاوب مع المرحلة الجديدة، ولديها تدخلٌ في الاقتصاد يمكّنها من السير قدمًا في ضمان حماية كرامة شعوبها، وستضع كل مقومات الدولة لخدمة شعوبها، وفرص خروجها من هذا المأزق بسلام هو أعلى من غيرها، بل قد يكون من حظها قيادة العالم.

أعتقد أن الصين وبعض الدول الاسكندنافية والأوروبية وكندا التي حققت أنظمتها حدًا مقبولاً من العدالة الاجتماعية مقارنةً مع أنظمة أخرى ستكون الأقدر على النجاة، وأن تكون المحور الأقوى في العالم لتفرض نظامًا عالميًا جديدًا غير جشع وأقرب للعدالة الاجتماعية.

أعتقد أن عام 2020 هو بداية تغير جوهري نحو نظام عالمي جديد غير النظام الذي اتضحت معالمه في أوائل التسعينات بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ولن يكون هذا العالم تابعًا لمحور واحد يستولي على موارده، بل لا أستبعد أن تقع تغيراتٌ وثوراتٌ اجتماعيةٌ ستقع في عدد من البلدان. فهذه المرة لا ترى شعوب الأرض الآخرين عدوًا لها، بل سترى مشكلتها مع أنظمتها التي تركتها فريسة لكورونا، وستدرك أن التغيير قادم، لكن حجمه وشكله وسرعته وتبعاته هو ما ستكشفه السنوات القادمة، فالعالم  -برأيي المتواضع- بعد كورونا لن يكون ذات العالم الذي قبله، وسيكون الظلم الاجتماعي والسياسي هو عدو الشعوب والعدالة الاجتماعية هي طريقها المنشود.


اقرأ/ي أيضًا: 

تأملات في زمن الطوارئ

القادم كوفيد