انتهت أعمال المؤتمر الشعبي لإصلاح وتوحيد القضاء الذي عُقِدَ منتصف الأسبوع الماضي بدعوةٍ من الائتلاف الأهلي لإصلاح القضاء، وعاد المؤتمرون إلى بيوتهم في ذات اليوم الذي عقد فيه المؤتمر، لكن ارتدادات عقده كانت أكبر من ذلك بكثير، كانت قبل المؤتمر وأتت بعده، ولن تنتهِ في الأفق القريب.
أطراف فاعلة في أركان العدالة ومقربون من السلطة التنفيذية حرضوا ضد المؤتمر الشعبي لإصلاح القضاء علنًا وسرًا، وأحدهم شبّهه بمؤتمر البحرين
الارتدادات التي سبقت المؤتمر كثيرة، كانت أبرزها حملة التحريض المنظمة التي تعرض لها المؤتمر ومحاولات التأثير على مخرجاته، وكان جزءٌ من ربانها أطرافٌ فاعلةٌ في أركان العدالة وآخرون مقربون من السلطة التنفيذية، بعضهم دعا علنًا إلى مقاطعة المؤتمر، والبعض الآخر امتنع عن حضور أعماله وحرض ضده سرًا، حتى أن قاضٍ كبيرٍ في المحكمة العليا شبه مؤتمر إصلاح القضاء بـ"مؤتمر البحرين"، في كلماتٍ تحمل في مضمونها إشارات تخوينٍ للقائمين على المؤتمر.
اقرأ/ي أيضًا: جرّاح القضاء
صحيحٌ أنه قد التزمت كل الأطراف الرسمية المنطوية في إطار ما يعرف بأركان العدالة بمقاطعة أعمال المؤتمر، ولم يحضروا أيًا من جلساته في قاعات المؤتمر، لكنهم في الحقيقة تابعوا وقائعه التي بثت عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي حرفًا حرفًا، بل كانوا أكثر متابعة لحيثياته مباشرة من المتواجدين في داخل القاعة، فهم يدركون في هذه المرة قيمة كل حرف نطق في المؤتمر.
رغم مقاطعة القضاة للمؤتمر، اتسم شخصٌ واحدٌ بالجرأة والمسؤولية في آن واحد، وقرر أن يشارك في المؤتمر وينقل للحضور تصوره من أجل الإصلاح، إنه قاضي المحكمة العليا عبد الله غزلان، الذي قدم ورقة في المؤتمر يمكن أن تشكل أساسًا لبرنامجٍ إصلاحيٍ داخلي في القضاء، إن كان بإمكان القضاة أن يحققوا الإصلاح من الداخل، وكان جريئًا أيضًا حين كشف النقاب عن خشيةٍ لدى بعض القضاة أن تنجم عن المؤتمر مجزرةٌ في القضاء إن جاء الإصلاح من خارج القضاء، أي من السلطة التنفيذية.
مخاوف لدى بعض القضاة أن تنجم مجزرةٌ في القضاء إن جاء الإصلاح من السلطة التنفيذية
المفارقة العجيبة أن كل المتصارعين من أركان العدالة الذين خافوا بقوةٍ من المؤتمر وقاطعوه، التقوا بعد ثلاثة أيام من انعقاده وتناقشوا بشأن العدالة، وكانت القضية الأبرز التي تناقشوا فيها كيف يمكنهم من إيجاد آلية تلزم كل مواطن يمثل أمام محاكم الصلح بتوكيل محامٍ للدفاع عنه. الاقتراح لم يأتِ من باب تحقيق العدالة، بل من باب توفير مصدر دخل للمحامين الذين يتكاثر عددهم سنويًا بالمئات، في وقت ينخفض فيه معدل دخل المحامين، فوجد المجتمعون أن الحل الأمثل تحميل المواطن التكلفة من خلال إلزامه بتوكيل محامٍ في قضايا الصلح الذي يمكنه الآن تمثيل نفسه أمامها دون محام، بعد أن تم تحميله من قبل تكلفة التأمين الصحي للمحامي من خلال إقرار رسومٍ فرضت على بعض الوكالات.
الذين خافوا من المؤتمر الشعبي لإصلاح القضاء اقترحوا إلزام المواطنين بتوكيل محامين في قضايا الصلح لتوفير مصدر دخل للمحامين من جيوب المواطنين
لقد حظي توجه أركان العدالة بانتقادٍ شديدٍ من قاضي المحكمة العليا عزت الراميني الذي قال في تغريدة نشرها إن عبئا سيضاف على "المواطن الغلبان" في ظل مبدأ مجانية العدالة، وحذر أن ذلك سيثير ضجة نحن بغنى عنها، والأولى إلزام الشركات بتوكيل المحامين.
اقرأ/ي أيضًا: همسة في أذن الرئيس لجلسة استماع حول القضاء
المؤتمر الشعبي لإصلاح القضاء الذي شكل أوسع تجمعٍ شعبيٍ يُعقد لغاية اليوم من أجل القضاء، اتسم بمسؤوليةٍ عالية، ورفض بمخرجاته وبتفاصيله لأن يكون أداة يستخدمها أيٌ من المتصارعين في أركان العدالة. ميز المؤتمر بشدة بين الأهداف والوسائل، وتبنى قراراتٍ هامة لا يريح بعضها السلطة التنفيذية، مثل تهيئة المناخ العام لإصلاح القضاء من خلال الدعوة إلى إجراء انتخاباتٍ عامةٍ رئاسية وتشريعية، وأن تتوقف السلطة التفيذية عن أي تدخلاتٍ في الشان القضائي، واحترام القانون في إجراءات تعيين رئيس مجلس القضاء الأعلى وباقي الوظائف القضائية العليا.
تبنى المؤتمر الشعبي قراراتٍ لا تُريح السلطة التنفيذية والقضاة، وفوض فريقًا مجتمعيًا لتنفيذ الرؤية التي عُرضت خلاله
وأصدر في المقابل قراراتٍ لا تريح القضاة، مثل ضرورة توقف بعض القضاة عن سياسة إعاقة أية محاولاتٍ إصلاحية للقضاء، وعدم اعتبار أن القضاء هو بمثابة إقطاعٍ خاص بهم دون غيرهم من قوى المجتمع الفلسطيني، وإتاحة المجال للجمهور للتعبير عن رأيه في الشأن القضائي، دون تشويهٍ أو تخويفٍ أو تخوين.
كما قرر المؤتمرون عدم الاكتفاء في هذه المرة بتوصيات المؤتمر بل بوجوب متابعة تنفيذها، وتفويض فريقٍ مجتمعيٍ من ذوي الخبرة والمشهود لهم بالسمعة الحسنة بمتابعة تنفيذ الرؤية المجتمعية لإصلاح القضاء التي عُرِضَت في المؤتمر، والملاحظات والكلمات والمداخلات والتوصيات التي قدمت خلال جلسات المؤتمر، وإعداد مقترحٍ تفصيليٍ للإنقاذ يتم الإعلان عنه رسميًا في موعدٍ أقصاه أربعة أسابيع من تاريخ انعقاد المؤتمر.
أعتقد أن الفريق الذي تم تفويضه سيكون مدركًا تمامًا لدوره الأمثل وهو الضغط من إصلاح القضاء، ومن أجل حل الإشكاليات التي تواجه القضاء كالانقسام، والسيطرة السياسية عليه، وتفشي النزاعات داخله، وانعدام المساءلة والمحاسبة، وتراكم القضايا المنظورة، وضعف ثقة الجمهور الفلسطيني فيه. وعليه، تقع على عاتق هذا الفريق، ومعه كل مؤسسات المجتمع المدني في مقدمتها الائتلاف الأهلي لإصلاح القضاء وحمايته، مسؤولية الحماية الشعبية للقضاء، وعليهم تقع مسؤولية الضغط من أجل إصلاح القضاء دون الوقوع في شرك الوسائل.
أما اقتراح الحلول فهو مسؤولية الدولة، ومسؤوليتها أن تقرر إن كان الإصلاح يجب أن يكون داخليًا أو خارجيًا، في حين أن مسؤولية المجتمع المدني هي مواجهة أي حلولٍ لا ينجم عنها إصلاحًا للقضاء، أو مسًا باستقلاله وبحقوق المواطنين، فرسم التدابير مسؤولية الدولة، ومراقبة صحة وسلامة تطبيق هذه التدابير مسؤولية المجتمع المدني، ولا يجوز أن ينجم عنها ما يمكن أن يحكم سيطرة السلطة التنفيذية على القضاء، ولا يجوز أن يبقى حال القضاء عليه، واعتقادي أن الأيام المقبلة حافلةٌ بالمفاجآت المتعلقة بالقضاء، فإصلاح القضاء بات أولوية مجتمعية وعلى السلطة أن تعي ذلك.
اقرأ/ي أيضًا:
هل سيُقايض القضاة استقلال القضاء بمنافع مالية؟