يعتبر سقوط صفد، مدينة الذوق المعماري الأنيق، أقسى نتائج نكبة فلسطين عام 1948، كونها المدينة الوحيدة التي اقتُلع منها سكانها الفلسطينيون الأصليون بالكامل.
صفد، المدينة الوحيدة التي اقتُلِع منها سكانها الفلسطينيون الأصليون بالكامل
بعد سبعة عقود من النكبة، مازالت 50% من بيوت صفد على حالها، محافظة على هويتها الفلسطينية والعربية، لم يمحُ زمن التهويد والطمس، الممتد منذ 71 سنة، الرسومات والشعارات المكتوبة باللغة العربية على مداخلها.
أجمع الرحالة والمؤرخون الذين كتبوا عنها، على سحرها وجاذبيتها، وبهاء المناظر الطبيعية المحيطة بها، ولا سيما في فصل الربيع، فهي غنية بالأشجار المزهرة، ويتحول جبلها "كنعان" خلال فصل الشتاء إلى لوحةٍ من زهر اللوز الأبيض أو المائل إلى الحمرة.
وفيها منطقة "الرجوم" الشهيرة بالأزهار البرية المتنوعة، وكذلك سفوح الجبال والتلال وامتدادات الوديان، وقد ذكرها الرحالة التركي أولياشلبي قائلاً: "بدت لنا حمامة بيضاء تتحفز للطيران".
هجِّر أبناء صفد إلى لبنان وسوريا، وقُدّرت أعدادهم منتصف الأربعينات بـ12 ألف فلسطيني. أما اليهود فقُدّروا حينها بـ2400 نسمة. واليوم، لا يوجد فلسطينيٌ يعيش في صفد، بينما يُقدر عدد اليهود فيها حاليًا بنحو 33 ألف ساكن.
تعددت المصادر التي تشير إلى عدد القرى التي كانت تتبع صفد قبل النكبة، لكن أكثرها دقة وبحسب مركز المعلومات الفلسطيني، أن 82 قرية تتبع صفد، 77 قرية منها تم هدمها وتهجير أهلها، ولم يبق منها إلا خمسة قرى، هي: طوبا، والريحانية، وعكبرة، والجش، وحرفيش.
مع حلول مساء 11 أيار/مايو 1948، أكملت ميليشيات البلماخ والهاغاناه الصهيونية عمليات التمشيط في صفد، فقتلت من قتلت، ورحلت من بقي من العجائز والمرضى، وبذلك أُسدِلَ الستار على عروبة المدينة. وربما كانت هذه المدينة أكثر المدن الفلسطينية تأثرًا بما أسفرت عنه النكبة، فقد خلت كليًا من أهلها العرب الذين شكلوا حينذاك 84% من مجموع السكان، وفق ما أورده مصطفى العباسي في كتابه، "صفد في عهد الانتداب البريطاني 1917-1948".
82 قرية تتبع صفد، 77 قرية منها تم هدمها وتهجير أهلها
في كتابه "صفد عروس الجليل"، يكتب ظافر بن خضراء: "تعتبر صفد عاصمة الجليل الأعلى، قدر الدكتور سليمان أبو ستة عدد سكان صفد وقضائها الذين اقتلعوا منها عام 1948 بنحو 52300 عربي فلسطيني، وصل مجموعهم عام 2000 في المهاجر المختلفة إلى 340.730 فلسطينيا، تعود أصولهم إلى 78 قرية. كانت أهم حاراتها: حارة القلعة، حارة اليهود، حارة الأسدي، حارة الأكراد، حارة الصواوين، حارة الخضراء، حارة الرجوم، حارة الوطاة، حي آل قدورة، حي النصارى".
في شهر أيار/مايو 2014، أطلقت مخططة المدن والفنانة التشكيلية سعاد مخول، صرختها وصرخة صفد قائلة: "صفد من يكتب قصتك؟ المدينة خاوية من سكانها، 66 عامًا مضت، ولم يبق أحد يحرس الأطلال، لم يعد هنالك باعة في سوق المدينة والحوانيت.مآذن المدينة الخمسة، صامتة".
بحسرةٍ قاسيةٍ، تتنقل مخول بين البيوت والعقارات التي غيرت النكبة وما تلاها من استيطان واستيلاء، أسماءها وهويتها العربية الفلسطينية الأصيلة. تقول: "عددٌ كبيرٌ من البيوت في البلدة القديمة تحول إلى فنادق وبيوت للضيافة، بعض أسمائها مستوحى من طابع المكان والتوراة، وأخرى وهمية".
وتتابع مخول، "بحوزتي مخططات المدينة من فترة الانتداب البريطاني، أريد أن أرى الأحياء والمواقع كما كانت عليه، والمقارنة مع ما آلت إليه. الأحياء العربية التاريخية جزءٌ منها أصبح اليوم منطقة سياحية تعرف بحي الفنانين. وعمارة السرايا العثمانية هي المعلم التاريخي الأبرز ونقطة التقاء الأحياء العربية التاريخية، إلى الشمال الغربي منها تصل إلى مركز المدينة التاريخي، حيث السوق المركزي، وجامع السوق، والحي المسيحي وكنيسة السيدة العذراء، وعين الماء التاريخية (عين الزاوية)، والحمام التركي العام".
هذه التسميات غير موجودة اليوم، لن تجدوها على المخطط السياحي للمدينة. فجامع السوق أصبح يسمى "المعرض العام"، انتُزِع الهلال عن مئذنته وأصبح معرض فنون وبيت للفنانين، وكنيسة السيدة العذراء منزوعة الصليب كأنها ورشة بناء، وعين الماء تسمى اليوم "ساحة العين النائمة"، والحمام العام ومحيطه أصبح "بستان التماثيل".
الجامع اليونسي في صفد أصبح معرض فنونٍ وانتزع الهلال عن مئذنته، وكنيسة السيدة العذراء منزوعة الصليب كأنها ورشة بناء
تواصل مخول شرح تحولات المدينة على مدار عشرات السنوات من النكبة والاقتلاع، فالجزء الجنوبي الغربي من المدينة كان يسمى "حارة الوطاة"، وعلى طرفها الجنوبي يقع المسجد الأحمر، أو الخان الأحمر، وقبة بنات حميد من العصر المملوكي. أما المنطقة الشرقية ففيها حارتا الأكراد والصواوين، ومن أبرز معالمها جامع بنات يعقوب أو الجامع الشريف. هذه الأسماء تبدلت بأسماء دينية يهودية ولم يعد لها أثر.
عرائش العنب على أسطح البيوت تُذكّر بقرية البقيعة الجليلية، أطفالٌ يلهون في الأزقة ويتكلمون الفرنسية، ندخل دون استئذان إلى "حوش" أحد البيوت. في زاويته درجٌ جانبيٌ مغطى بأوراق أشجار التين والرمان المتبقية. نبدأ بالتقاط الصور، تخرج امرأةٌ من بوابة أحد العقود، تطلب منا بالفرنسية أن نترك المكان، أقول لها: "ظننا المكان عام لأن الحوش كبير والبناء متميز، لم تفهم قصدي، كلام غريب عليها وهي قادمة من فرنسا إلى صفد للتوحد والتأمل".
سقوط صفد
في القراءة عن كيفية سقوط صفد، ستجد عناوين مختلفة لاحتلال المدينة، أكثرها شيوعًا: "تسليم صفد"، ما يوحي أن المدينة تعرضت لمؤامرة في الأيام الأخيرة قبل التهجير، حيث لا تشير المذكرات الشخصية والسياسية لمن عاشوا اللحظة أو تابعوها بكتاباتهم، إلا لبعض المناوشات الخفيفة قبل الهجوم الأخير بأيام وساعات.
أبرز هذه "المناوشات"، مبادرة الهجوم على الحي اليهودي يوم 28 نيسان/إبريل 1948، وبعض الاشتباكات طيلة الشهر ذاته. سبقها هجوم البلماخ على قرية الخصاص في 18 كانون أول/ديسمبر 1947، وعلى سعسع في 14 شباط/فبراير 1948، وعلى قرية الحسينية في 12 آذار/مارس 1948، فيما يُعتبر احتلال قرية عين الزيتون في الأول من أيار/مايو 1948 بداية تهجير أهالي صفد.
اعتمد قادة البلماخ على دك المدينة براجمات "دافيدكا" لزرع الرعب في نفوس العرب، وبعد طرد السكان وخلال عملية التمشيط وُجِدَ في المدينة 137 مسنًا ومريضًا، المسملون منهم طُرِدوا إلى لبنان، والمسيحيون إلى حيفا.
يُبين المؤرخ العباسي، أن اليهود كانوا على أتم الاستعداد لمعركة صفد، حتى أنهم أجروا تمارين مسبقة أسموها "الحرب ما قبل الحرب"، في حين تأخر السكان العرب في هذا المجال، فقد عانوا سوء الإدارة والانقسامات، وحتى عندما وصلت قوات "جيش الإنقاذ" اختلفت مع قائد حامية صفد.
أجرى اليهود تمارين أسموها "الحرب ما قبل الحرب" استعدادًا لمعركة صفد، أما العرب فتأخروا في هذا المجال
وكانت القوات اليهودية أكثر عددًا وعتادًا وحظيت بدعم بريطاني. فمنذ عام 1940 ازداد نشاط منظمة الهاغاناه في صفد، وقبل صدور قرار التقسيم في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947، كانت الهاغاناه في صفد قد أتمت عمليًا الاستعدادات في المجالين العسكري والمدني، وخاصة في عامي 1945-1946، حيث أنهت بناء التحصينات والسياجات، وجهازًا عسكريًا محليًا، وتزودت بالسلاح، وأقامت لجنة طوارئ.
اقرأ/ي أيضًا: حيفا المخيّم
حاول العرب إقامة منظمةٍ موازيةٍ قادرةٍ على الدفاع عنهم أسموها "النجادة"، وانطلقت في يافا سنة 1945، ثم امتدت لصفد في 1946/1947، ونجحت في تجنيد مئات الشباب، إلا أنها فشلت في تطبيق برنامجها الرئيسي، وهو تهيئة الشباب في المجال العسكري، فتوجهت إلى أنشطةٍ كسابقاتها، مثل تنظيم مسيراتٍ في الأعياد، وتشجيع الصلاة في المساجد، وإرسال بعثات، وتشجيع المقاطعة الاقتصادية ومنع بيع الأراضي.
لاحقًا، توحدت "النجادة" مع منظمة "الفتوة" التي أنشأها المفتي الحاج أمين الحسيني، لكن استمرار الانقسامات السياسية بين التيارات المتعددة أدى الى نشوب الخلافات واستقالة الكثيرين، ما أضعف الحركة الوطنية الفلسطينية بشكل كبير.
استطاعت الحركة الصهيونية بناء ستّ مستوطناتٍ في صفد قبل الاحتلال البريطاني لفلسطين، وهي "روشبينا" تأسست عام 1882، و"يسود همعلة"، و"مشمار"، و"المطلة"، و"كفار جلعادي"، و"ابلت هشجرة". ثم أنشأت 19 مستوطنة إبان الاحتلال البريطاني، وهي: "مان، دفنة، عامر، فاهانيم، بيت هيلل، شعايا شوف، كفار نحميا، كفار زولد، كفار بلوم، شامير، بيريا، مسكاب عام، عين زيتيم، عاميعاد، راميم، نعوت مردخاي، حاصور، ميعان باروخ، كفار هاناسي".
عرب نزحوا إلى صفد
وفي أوائل القرن التاسع عشر، وصل شخصٌ اسمه صالح بن خضراء، واستقر في صفد، وفيها فقد عددًا من أبنائه إثر زلزال 1837، فيما هاجر بعض أولاده من صفد بعد الكارثة متجهين إلى صور ودمشق وجبال العلويين. وأورد المؤرخ خضراء في موضع آخر من كتابه "صفد عروس الجليل"، أن الفقيه العلامة أحمد بن خضراء، نزح من مدينة سلا المغربية إلى فلسطين، في أواسط القرن الثاني عشر الهجري، وطاب له العيش في صفد.
يورد العباسي، أن الجزائريين وصلوا صفد بعد احتلال فرنسا للجزائر سنة 1830، حيث أقيمت لهم خمس قرى هي: ماروس وديشوم وعموقة والحسينية والتليل، وقُدر عددهم في حارة الأكراد خلال أربعينيات القرن الماضي بنحو 300 نسمة.
ويذكر المؤرخ مصطفى الدباغ في موسوعة "فلسطين"، أن عدد الجزائريين في ريف صفد عام 1945 وصل إلى 1150 نسمة.
عدد الجزائريين في ريف صفد عام 1945 وصل إلى 1150 نسمة
أكبر عائلات صفد كانت: قدورة والأسدي والخضراء، بينما بيّن العباسي، أن العائلات المهمة في صفد قبل 200 إلى 100 عام كانت: النحوي، القاضي، المفتي، قدورة، صبح، مراد، الحاج سعيد، الأسدي، الخوري، الصباغ، البشوتي، حداد.
اقرأ/ي أيضًا: صور | كيف تجمّلت نساء فلسطين قبل النكبة؟
في جانب الثورة، فإن من أشهر أبناء صفد، الشهيد فؤاد حجازي الذي أعدمه الاحتلال البريطاني في سجن عكا، مع رفيقيه عطا الزير ومحمد جمجوم من الخليل إثر اشتراكهم في هبة البراق عام 1929.
ومن صفد أيضًا، وديع حداد "أبو هاني"، وقد وُلِد فيها عام 1927، وهو من مؤسسي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وقبلها حركة القوميين العرب، وصاحب شعار "وراء العدو في كل مكان".
ومن رموز صفد أيضًا، صبحي الخضراء، وكان شخصية وطنية بارزة، ولد عام 1895، وابنته الأديبة والناقدة والمترجمة والأكاديمية المعروفة، سلمى الخضراء الجيوسي، وهي من مواليد 1928.
زلازل صفد
ألمت بصفد كوارث طبيعية ألحقت بها أضرارًا كبيرة، مثل زلزال سنة 1759. لكن الحدث الأكبر في تاريخ صفد، كان زلزال 1837 الذي أودى بحياة ألفين إلى أربعة آلاف شخص، معظمهم من اليهود. كان لهذا الزلزال أثرًا بالغًا على صفد، فأصابها ركودٌ اقتصاديٌ كبير، ما دفع كثيرين من أبناء المدينة إلى الرحيل عنها، متوجهين إلى حيفا، وعكا.
الطبيب الإنجليزي توماس ماسترمان، سكن صفد سنة 1893، وعمل في المستشفى الإنجليزي بالمدينة، يصف أهل صفد قائلاً: "مجموعة فعالة من أصلٍ صلبٍ وشجاع وقوي، يتباهون بملابسهم، وهم أكثر لطفًا من سكان منطقتي القدس والخليل".
اشتهرت صفد بدقاقي الحجر، وشهدت اهتمامًا كبيرًا بالتعليم، فقد تأسست أول مدرسة فيها عام 1878، ثم افتُتِحت المدرسة الثانية عام 1882، وفي عام 1930-1931 افتُتحت المدرسة الثالثة للبنين، فيما افتُتحت مدرسةٌ للبنات عام 1936، وفي عام 1947 أصبح في المدينة مدرستان للبنات، قبل أن يصل في عام 1943 عدد المدارس الفردية والرسمية في قضاء صفد، 16 مدرسة.
تأسست أول مدرسة في صفد عام 1878، ثم في عام 1943 أصبحت في صفد 16 مدرسة
وعُرِفت صفد أيضًا بزيتونها، وبالحبوب والتين والعنب والمشمش والرمان والجوز والليمون، وتوفر المراعي الخصبة لإنتاج الحليب والألبان والأجبان. كما توفر فيها العسل والقطن، وكان فرع النسيج والغزل والحياكة أحد المصادر الاقتصادية لها.
وبشكل عام كانت تجارة صفد بحسب العباسي على مستويين: الأول محلي اعتمد على التبادل التجاري مع المناطق القروية المجاورة، والثاني اعتمد على التجارة الإقليمية، وشمل تصدير المنتوجات الزراعية من صفد إلى ميناء عكا، ثم إلى أوروبا.
وكانت في صفد أربعة مصارف: البنك العثماني وملكيته إنجليزية - فرنسية، وبنك برزل - برشد وامتلكته عائلتان يهوديتان، والثالث: بنك أنغلو – فلسطين وكانت ملكيته يهودية، والبنك الرابع افتتحه العثمانيون بهدف تشجيع الزراعة، وعُرف باسم البنك الزراعي، وجميع أعضاء إدارته من العرب.
بعد 71 سنة من النكبة، شهدت صفد يوم 2 آذار/مارس 2019، جولة لعشرات الفلسطينيين هدفت إلى إيجاد صوت عربي، وتبادل الحديث بلغة المدينة الأصلية، كما غنت ودبكت فرقة فنون شعبية على بلاط المدينة وأرصفتها بالزي الفلسطيني التراثي، وأقاموا معرضًا فنيًا حول المدينة المسلوبة للفنانة رنا خليفة، وصلَّى رامز خليفة لأول مرة وكأول فلسطيني مسلم يؤذن ويصلي في المسجد اليونسي (الذي تحول لمعرض لوحات لفنانين يهود) منذ عام 1948، حيث سبق له أن صلى فيه مع والده وهو في سن السادسة، قبل أن يُهجَّر إلى عكا.
اقرأ/ي أيضًا:
صور | عن الناس الطيبة في فلسطين قبل النكبة