للمرة ثالثة يقارب المخرج الفلسطيني كمال الجعفري، مدينة يافا وثائقيًا بطريقة مغايرة عمّا اعتاده الجميع مقاربتها أو رؤيتها، وهي مدينته التي هُجّر منها وحاول الاحتلال محوها، وله فيها الكثير من الذكريات التي جعلته يعمل بعناد من أجل استعادتها بقوة السينما والصورة.
"استعادة".. فيلم فلسطينيّ صامت يستعيد ذاكرة يافا من عشرات الأفلام الإسرائيلية التي صُوّرت في ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
قدّم الجعفري المُقيم في برلين، بداية "السطح (61 دقيقة)"، ومن ثم "ميناء الذاكرة"، وفي كلاهما منح البطولة للمدينة وناسها، أمّا الفيلم الثالث "استعادة/ Recollection"، ومدّته (70 دقيقة)، فله حكاية مختلفة وإن كانت عن يافا أيضًا. ففيه عاد إلى أكثر من 50 فيلمًا روائيًا إسرائيليًا صورت في يافا في ستيات وسبعينات القرن الماضي، وقدّم فيلمًا وثائقيًا اقتص منها جميعًا على طريقته الفنيّة، ليعيد بناء المشهد الخاص بالمدينة التي أظهرها بعكس ما أظهرتها الأفلام الصهيونية.
فقد حُرِّر أبطال الفيلم من مادة العمل التصويري الأصلي، بحيث ينتقل التركيز إلى ما بعد الممثلين والروايات المخترَعة، إلى الناس والفضاءات في الخلفية. وتُقلَب الأدوار: المهيمن والتابع، المضطهِدون والمضطهَدون، الأسياد والعبيد.
وعبر قيام المخرج بعمل مونتاج جديد "يوقِف" التاريخ ويستعيد ما جرى تجاهله، أما عن كيف كان ذلك؟ وما أهمية هذا الفعل السينمائي التجريبي؟ وكيف يتلقاه الجمهور الفلسطيني والعربي والغربي؟ إليكم الحوار التالي:
ما الذي يجعلك كمخرج متأكدًا من أنّ الجمهور سيستمر في مشاهدة فيلمك الوثائقي التجريبي الطويل، إنّه عمل من طراز رفيع ومختلف ويخلق لنفسه تفردًا خاصًا لم يعتده جزء كبير من جمهور الأفلام، كيف تتوقع من المشاهد أن يتلقى "استعادة"؟
لا يجب أن تكون عبقريًا كي تتلقى الفيلم وتحس به وتفهمه، ربما يلزم المشاهد أن يكون على درجة ما من الثقافة، ومتذوّق حقيقي للسينما كي يستمر في المشاهدة، لقد عرض الفيلم في بيروت، وكانت الردود إيجابية ومتحمّسه له، في دبي كان الأمر نقيض بيروت، وهو أمر فاجأني نسبيًا، ربما لهذا علاقة بالمكانين ومدى توافر الثقافة السينمائية. كما أن جزءًا من الجمهور الذي حضر العرض في دبي جاء ليرى يافا التي في ذاكرته، أي البيارات والبرتقال والبحر الجميل، هذه يافا التي في ذاكرتهم، أمّا يافا الخاصة بي، فهي مختلفة.
يبدو الفيلم متجاوز للغة البصرية التقليدية؛ فهو ينحت له لغة عالمية، كيف أثّر ذلك على تلقيه؟
تلقّي الفيلم من جمهور عالمي كان أسهل من تلقيه من جمهور فلسطيني أو عربي كما ذكرت، الجمهور العالمي لديه توقعات مختلفة عن ما أريد تقديمه، هؤلاء لم يحضروا ليشاهدوا البيارات في يافا.. الخ، الأمر هُنا مرتبط بالتذوق وبالثقافة السينمائية.
ما أستطيع قوله وهو يحمل مفارقة مؤلمة أنّ هذه الثقافة السينمائية التي نطالب بوجودها عند جمهور عادي غير موجودة عند العاملين في السينما أيضًا، ولك أن تتخيّل هؤلاء عندما يشاهدون فيلمًا مختلفًا، هناك تدني ملاحظ ومرصود، وهناك أفلام فلسطينية تتعامل معنا باستشراق أكثر من أي مخرج مستشرق.
"استعادة" يقدّم لغة سينمائية خاصة، ويطرح سؤال دورنا كفنانين ومخرجين مع قضية تُرفع طوال الوقت حولها شعارات جامدة، الملاحظ أنّ المستوى الخاص بالأفلام الفلسطينية متدني، وكأنّها أفلام أصبحت تنفّذ مباشرة رغبات وتلبي توقعات السوق العالمي، فيلمي يرفض هذا المقياس، وهو مختلف عن هذا النمط السينمائي.
مهمّة المخرج، من وجهة نظري، هو تصوير قاع البحر وليس وصف البحر، والسؤال يبقى ما هي الصورة التي علينا أن نقدّمها لأنفسنا ومن ثم نقدمها للعالم.
إنّه فيلم مختلف جدًا، من ناحية الفكرة والمضمون ومقدار التجريب فيه، حدِّثنا عنه وعن رسالتك التي ضمنتها إياه؟
أنتجت إسرائيل تقريبًا 50 فيلمًا عن يافا وحدها، مُحي الفلسطينيّ منها وغُيّب، وكان على الهامش وفي خلفية الصورة. الفيلم عبارة عن تجميع لكل ما صُوِّر عن يافا في الأفلام الإسرائيلية، قررت كي أعود لهذه الأماكن تجميع المواد المصوّرة التي قام الاحتلال الإسرائيلي بانتاجها عن يافا، وجعلتها خلفية ما أريد بناءه، محوت الشخصيات الإسرائيلية التي كانت مركزية في الأفلام الإسرئيلية وأبقيت على الشخصيات الفلسطينية التي كانت جزءًا من الخلفية في المشاهد ومنحتها دور البطولة.
الفيلم وفق ذلك، هو بمثابة عودة شخص إلى يافا، قدرته خارقة للعودة للماضي أو زيارة شيء غير موجود الآن، فذروة الفيلم تتمثّل في أنّ الناس تمشي مع بعض وتتجمع مع بعض، إنها عودة للداخل. بمعنى من كانوا مطموسين ومهمشين ومنزوعين من سياق ما أنتج إسرائيليًا جعلت لهم الصدارة، وأعدت لهم الحياة،
لقد أعدتُ تحريك المواد البصرية، وجعلت من حركة الكاميرا بناءً على شخص يحلم بالمكان، فرصة ... أن يعود الكل.
إنه فعل أشبه بعدالة سينمائية للمكان أو تصحيح للصورة أو إعادة للجريمة الفظيعة التي قامت بموجبها إسرائيل بمحو المكان
الفيلم يُعيد صياغة السينما، يفتح بابًا للغة سينمائية جديدة عبر استخدام المواد الخاصة بأفلام إسرائيلية، ومن خلالها أعمل على استعادة كاملة للمكان المحتل. إنه فعل أشبه بعدالة سينمائية للمكان أو تصحيح للصورة أو إعادة للجريمة الفظيعة التي قامت بموجبها إسرائيل بمحو المكان.
كميّة الذكريات التي تضمّنتها الصور غير محدودة، وبالتالي نرى أن قدرة السينما هنا تمثّلت في كونها حققت ما هو مستحيل، أي إعادة تشكيل المشهد وبناء الواقع، أي بناء عالم جديد غير موجود حاليًا.
لماذا كان في هذه العودة للماضي ربطًا مع الحاضر، اللحظة الراهنة؟
من وجهة نظري هناك صعوبة كبيرة في رواية أي شيء له علاقة بالنكبة من دون العودة للحاضر، الحاضر هو نكبة أيضًا وفي كثير من المدن العربية، الفيلم عبارة عن عودة ليافا وهي مثل عودة أي شخص يعود لمكان حلّ به دمار.
ما هو الأصعب في إنتاج فيلم وثائقي من هذا النوع، التمويل أم مقابلة الجمهور الذي خرج نصفه من القاعة لكونه لم يتلق المتعة البصرية التي حلم بها بعد أن توقعها؟
الأصعب هو تمويل الفيلم، فلسطينيًا لا يوجد مؤسسات ثقافية منفتحة على هكذا أعمال، ومع ذلك تلقيّت دعمًا من مؤسسة عبد المحسن القطان في فلسطين/ لندن، ومؤسسة عبد الحميد شومان/ عمان. أمّا بخصوص الجمهور، فيؤسفني قول أن حالة السينما اليوم تصعّب من عملية بناء جمهور لديه تذوق سينمائي، السوق السينمائي يعج بالأفلام التافهة والموضوعات "الهبلة"، ونحن كمبدعين فلسطينيين ننساق لذلك، ونضيّع على أنفسنا فرصة بناء ثقافة سينمائية فلسطينية راقية.
شخصيًا لديّ مشروع سينمائي خاص، من فيلم "السطح" ومن ثم "ميناء الذاكرة" وصولًا إلى "استعادة"، أنا معنيّ بالفن، لا أنظّر لنفسي إلا كشخص يريد أن يضيف للسينما وللفن الفلسطيني والعربي والعالمي.
حدّثنا عن الفيلم من ناحية الزمن الذي استغرقه الفيلم ليرى النور؟
احتجت مدة سنوات خمس لتجميع الأفلام الإسرائيلية، أمّا الانتاج فقط استغرق منّي سنة كاملة مع التأثيرات البصرية.
مهمّتك في هذا الفيلم ليست سهلة، ربما تجعلك تشعر بالوحدة؟
الفيلم يحمل أسئلة مشروعة، وخلال العمل وصلت لقناعة أنّ أيّ مساومة لم تكن ستساعد الفيلم، بل بالعكس كانت ستدمر خطابه، إنّه عمل تجريبي راديكالي. ومن وجهة نظري أنّ مهمة الفلسطيني تفسير، وجلب رسالة عن سبب الوضع الذي نعيش فيه، وهذا الأمر يتضاعف لكوننا نعيش اليوم ورطة كبيرة جدًا.
أنظر لنفسي على أنني مبدع ولا يجب أن أخون، وبالتالي "استعادة"، هو حالة من التوثيق والأرشفة لمكان محتل ومنفيّ عن من عاش فيه. ولذلك ترى بالفيلم أنني أقدم يافا وإلى جوارها الوحش؛ أي مدينة "تل أبيب" وهي كمكان لا يهمني، أنا كفنان وكشخص عاش بالمكان معنيّ بالذاكرة التي تخصُّني.
تقدم أعمالًا وثائقية مختلفة لدرجة أنّ البعض يعتبرها روائية، تمارس التجريب وتتحلى بصبر وتأن، وتجعل من الكاميرا حارسًا جبارًا ومنتظر!
هذا مهم جدًا بالنسبة لمن يمتلك مشروعًا فنيًا سينمائيًا، جوهر الفيلم أنّه يطرح سؤالًا أثناء وبعد المشاهدة يتمثل في: أين ذهب البشر من هذه الصورة؟ لقد محوتها لأقول إن هناك من تم محوهم من هذه الأماكن التي تظهر في الشريط. يظهر من هؤلاء عدد قليل من الشخصيات وهؤلاء أمنحهم البطولة المطلقة.
من هو كمال الجعفري؟
مخـرج فلسطيني. حلّ كفنان ضيـف فــي ندوة روبرت فلاهرتي للأفلام للعام 2009، في مدينة نيويورك. أمّا في العامين 2009-2010 فقـد أصبح زميلًا في برنامج بنجامين وايت ويتني في معهـد رادكليف في جامعة هارفارد، وفي مركـز الدراسات السـينمائية.
عمل عام 2010 بالتدريس في جامعة The New School في نيويورك، ومن عام 2011-2013 شغل منصب رئيس برنامج الإخراج السينمائي في الأكاديمية الألمانية للفيلم والتلفزيون في برلين.
حصل على عـدة جوائز ومنح، من بينها، جائزة لويس ماركوريـل، ومنحة كانسـتفوند، بالإضافة إلى جائزة فريدرك فورديمبـرج للفنون البصرية في مدينة كولون فـي ألمانيا. عام 2016 كان أحـد أعضاء لجنة تحكيـم مهرجان تورينو للأفلام، وعُرضت أفلامه في مهرجان لوساس في فرنسا وفي سينماتيك كوبيكواز في مونتريال.
الجدير بالذكر أنّ مؤسسة عبد المحسن القطان ومركز خليل السكاكيني الثقافي، ينظمان سلسلة عروض للمخرج كمال جعفري، ستُعرض في عليّة مركز خليل السكاكيني الثقافي. للمهتمين يمكن معرفة التفاصيل هُنا.
اقرأ/ي أيضًا:
في بيوت العزاء: القهوة راسخة والحلويات تتغير!