منذ ما يقارب 100 ألف سنة، قرب مدينة الناصرة، تم دفن جثتين في خندق، بعد أن حملهما أهلهما الذين يسميهم علماء الآثار "بروتو-كرومانيون"، أو "الإنسان العارف القديم". كانت إحدى الجثتين لامرأة في العشرين من عمرها، أُلقيت على جانبها الأيسر، في هيئة الجنين في بطن أمه، ووضع بجانب رجليها طفل ملتوٍ على نفسه، يبلغ من العمر حوالي ست سنوات، ثم وضعت حولهما، أو ربما على جسديهما، كمية من خضاب المغرة (تراب معدني أحمر استخدم في التلوين)، لتكون شاهدًا على طقس جنائزي، ولتكون أقدم الجنازات المعروفة لدينا.
منذ ذلك التاريخ المغرق في القدم، وحتى القرن الواحد والعشرين، استمرت البشرية في التعامل مع الموت بقداسة تتجاوز مثيلاتها من الغيبيات التي عاشرها الإنسان. وكان لكل شعب أو قبيلة الطقوس الخاصة سواء في الدفن أو تلقي العزاء، بل ويمكننا التأكيد من خلال واقعنا في فلسطين، المنطقة التي تهمنا، على تنوع التعامل مع الحدث الواحد بين المناطق المختلفةز
يقول مؤرخون إن أول عملية دفن معروفة تمت في الناصرة، قبل 100 ألف سنة، وكانت لشابة عشرينية وطفل دُفنا معًا في خندق
توزيع الحلوى في بيوت العزاء مثلًا، لا يزال يحضر كتقليد في الكثير من المناطق في فلسطين، وبالطبع هناك اختلاف كبير في النوعية والتوقيت والسبب، وكذلك في بقية العادات والتقاليد التي تمارس في بيت العزاء. ففي القدس، كما تقول الحاجة منى حسونة من قرية أبو غوش، "يبعث جيران الميت فطورًا أو غداءً مدة ثلاثة أيام لعائلة الميت، والآن يتم تقديم التمر والقهوة، ولا أذكر أنهم يقدمون في العزاء في القدس غير ذلك".
اقرأ/ي أيضًا: صور | الأموات لهم نصيب من أعيادنا أيضًا
أمّا في أبو غوش، فتكون ترتيبات العزاء حسب الوضع المادي للعائلة، فتوضح منى، أن بعض العائلات يكون تقديم الحلويات فيها طوال أيام العزاء على عاتق الأهل والنسايب والأقارب، إضافة للقهوة. ومما يُقدم، المخمرات (فتوت حلو) والكعك بعجوة، وكذلك الكنافة، أو الغريبة، أو البقلاوة، وأحيانًا يقدمون عند الظهيرة أو في وقت المغرب "صفيحة" أو معجنات.
وتمتد التقاليد التابعة للعزاء في أبو غوش لأيام بعد انتهاء أيامه الثلاثة الأولى، ففي الخميس الأول تكون "التهليلة" التي يتخللها قراءة القرآن، والطبخ وتوزيع الحلوى عن روح الميت. تقول منى، إن هذه العادة كانت تتكرر في كل يوم خميس حتى انقضاء 40 يومًا بعد الوفاة، إلا أن موعد "التهليلة" تغيّر لدى البعض مؤخرًا، فصار في ثالث يوم، حيث يُقرأ القرآن، ويوزع الطعام والحلوى عن روح الميت، وذلك بسبب ذهاب الناس إلى أعمالهم بعد انقضاء العزاء وانشغالهم بأمورهم.
وفي إشارة منها لتلاقح الثقافات بين الأديان في فلسطين، تضيف منى بأن "خميس الموات" وهو أول خميس من الشهر الخامس في العام (أيار/مايو)، يجري إعداد الكعك أو المخمرات وتوزيعها عن روح الميت، وقد حُدّد "خميس الموات" كذكرى للأموات مثل أعياد المسيحيين، الذين يعدون الكعك والبيض الملوّن مسلوقًا في أحد أعيادهم، ويوزعونه عن روح الميت.
"التهليلة" من عادات العزاء في بعض مناطق القدس، وفيها يُقرأ القرآن عن روح الميت، ويُوزع الطعام والحلوى، وتُقام الآن في ثالث أيام العزاء
أما في غزة، فيقتصر تقديم الحلويات على التمر الذي ترافقه القهوة، إضافة لتقديم الغداء في الأيام الثلاثة وقت الظهر، وفقًا لـ"أم أيمن العمري"، التي أوضحت بأن العزاء يستمر لثلاثة أيام يكون فيه استقبال المعزِّين للرجال في "سرادق" يتم نصبها في منطقة واسعة قرب بيت الميت. وأما عزاء النساء، فيكون في المنزل، وقد شهدت الفترة الأخيرة في غزة تزايد حضور الواعظين والواعظات لمجالس العزاء.
ويذكر الصحافي باسل طناني من غزة، أن بعض المناطق في القطاع بدأت خلال السنوات الماضية توزع حلوى الغريبة في أول خميس يمر على الميت، وكانت توزع أيضًا في المقبرة، وفي بعض الأحيان تُقدم حلوى "المطبق" في بعض المناطق، وهي عجينة رقيقة محشوة بالسكر ومخبوزة.
أمّا في مدينة نابلس، ووفق ما أخبرتنا به سهيلة المصري، فللحلويات دور أساسي في أيام العزاء، بصورة لربما تحمل شيئًا من الغرابة، فالكنافة تقدَّم طيلة أيام العزاء بعد تناول وجبة الغداء، و في آخر أيام العزاء هناك عادة تسمى "الدلايل"، ولا زالت موجودة إلى وقتنا الحاضر. فبعد صلاة العصر، في اليوم الثالث من أيام العزاء للميت، يجتمع أهل الميّت والأقارب في بيت العزاء، أو في الديوان، ويقرأون القرآن كاملًا مرة أو مرتين، تم توزع الكنافة على الحاضرين، ليعلنوا اختتام أيام العزاء، وذلك كناية عن "خاتمة الأحزان".
في غزة بدأت بعض المناطق حديثًا بتوزيع الغريبة والمطبق عن روح الميّت، أما في نابلس فتُقدم الكنافة بعد الغداء طيلة أيام العزاء، وفي ختامه أيضًا
هذه العادة يُرجع المؤرخ إحسان النمر من نابلس أصلها إلى "بدعة" أظهرها الشيخ محمد سعيد حنون بعد رجوعه من مصر، مضيفًا، أنها آيلة للزوال، لكونها "مخسرة" مالية للناس. لكن الأمر الواقع ينفي أقوال النمر، فالعادة لا زالت حاضرة بشكل كبير، إذ يدعو أهل الميت من يرغبون ممن قدموا لبيت العزاء، كالدعوة للوليمة أو للفرح، فيما يتحمل تكاليفها عادةً أحد أقارب أهل الميت، أو أنسبائه، أو أصدقائه، بل وتحدث أحيانًا منافسة في تحمل تكاليفها.
اقرأ/ي أيضًا: المهور حين كانت ثورًا أو قمحًا أو أرضًا
ويوضح النمر في كتابه "تاريخ جبل نابلس والبقاء"، أن العزاء في نابلس يستمر من ثلاثة أيام إلى سبعة، يتلقى خلالها أهل الميت دعوة يومية إلى تناول طعام العشاء والغداء، ويتركون دار الميت التي تصبح مكان تعزية النساء، ويرسلون إليهن قدور الطعام وسدور الكنافة، ثم يختمون العزاء بختم القرآن ودعوة العشاء للمشايخ والأهل والجوار. وكانت تعزية النساء أيضًا تمتد ولا تنقص عن ثلاثة أيام.
ولا يزال أهل نابلس، يتمسكون بتقديم التمر والقهوة في بيت العزاء، كما وضع النخيل على القبور، وفتح العزاء في اليوم الأول من العيد التالي للميت، هذه العادات التي حاول تجمع دواوين عائلات الديار النابلسية إلغاءها، من خلال بيان وزعه على أعضائه من العائلات النابلسية، إضافة لغيرها من العادات المتعلقة ببيوت العزاء.
ويُرجع صادق العنبتاوي من التجمع أسباب التوصيات إلى الأحوال الاقتصادية لذوي الدخل المنخفض و المحدود، فهم بممارستهم لها يتكلفون فوق طاقتهم بأثمان التمر المرتفعة، إضافة إلى الأسباب الاجتماعية، فهي عادات لم تكن موجودة في السابق وليس لها أي دلالة دينية.
ويضيف العنبتاوي، أن البيان سبقته مناقشات حثيثة مع جميع الأعضاء وعلماء الدين في المدينة استمرت لسنوات، ورغم القوة المعنوية التي يمتلكها تجمع الدواوين هذا، إلا أن هذه العادات جميعها لا زالت تمارس من قبل الكثير من العائلات داخل المدينة.
تجمع عائلات في نابلس دعا لإلغاء بعض عادات العزاء بسبب تكاليفها التي لا تستطيع تحملها بعض الأُسر، لكن ذلك ظل حبرًا على ورق
ومن العادات التي كانت ترافق بيوت العزاء الخاصة بالنساء في نابلس، استحضار "الجناكي"، وهنّ نساء من طبقات فقيرة في المجتمع، وقد يكنَّ من "النَوَر"، ليمارسن "النواح" و "البكاء" لإضفاء جو من الحزن على بيت العزاء، خاصة إن كان الميت شابًا، وكنَّ يتفننَّ باللطم والبكاء والتحدث عن مآثره وأهله، إلا أنّ هذه العادة تلاشت.
اقرأ/ي أيضًا: زواج فلسطينيات وإنجابهن.. الماء وسيطًا
ورغم التقدم الحاصل في التبليغ عن الوفاة، عن طريق الإذاعة، أو مواقع التواصل الاجتماعي التي توجد فيها صفحات مختصة بالنواحي الاجتماعية في نابلس، إلا أن أهل المدينة يتمسكون بالإعلان عن الوفاة من خلال الكتابة على ألواح من الكرتون المقوّى باسم المتوفى، وتحديد المسجد الذي ستُقام فيه صلاة الجنازة على جثمانه، وأماكن العزاء للرجال والناس، وتعلَّق على أبواب المساجد الرئيسية في البلدة القديمة، وعلى مفترقاتها التي يؤمها أكبر عدد ممكن من المواطنين، فيما يطلق عليه من باب الطرفة "غوغل نابلس".
كما قد يرافق جنازة الميت من المسجد حتى المقبرة، فرقة صوفية، خاصة إن كان ذو شأن ديني، أو وطني.
أما في القرى المحيطة بمدينة نابلس، فكما يقول المحاضر في جامعة النجاح الوطنية عادل أبو عمشة، فإن بيت العزاء في قرية زواتا كان يفتح لمدة أسبوع لاستقبال المعزين من القرية والقرى المجاورة. ويذكر أبو عمشة، أن عملية الدفن كانت تنتهي بدعوة المشاركين من غير الأهل إلى تناول "الخروج"، أي أن كل أسرة في القرية من غير عائلة الميت كانت ترسل ما تيسر من الطعام على طبق كبير من القش إلى المسجد، لأن تناول الطعام في الأفراح والأتراح كان يتم في المسجد، وقد توقفت هذه العادة بعد عام 1967، كما يقول.
ويضيف أبو عمشة لـ"ألترا فلسطين"، أنه بعد صلاة العصر ثالث أيام العزاء، يُختم القرآن على روح الميت، ثم يُوزع التمر أو تُقدم الكنافة، وهذا التقليد "توزيع الكنافة" انتقل من المدينة إلى القرية، لأن العادة حتى 1967 كانت أن يقوم أهل الميت بذبح ذبيحة عن روح المتوفى، ثم يُدعى الرجال عند المساء لتناول طعام العشاء، ثم يدعو شيخ القرية للمتوفى بالرحمة والغفران.
ومن الجدير بالذكر أن عادة دعوة أهل المتوفى لتناول الغداء عند أحد أفراد القرية ماتزال موجودة، وتستمر لثلاثة أيام.
ويشير أبو عمشة إلى أن توزيع الكنافة كان حاضرًا في أيام العزاء قبل 20 عامًا وأكثر، إلا أن هذه العادة أُلغيت الآن، وتم استبدال الكنافة بالتمر، قبل أن تلغي بعض المناطق مؤخرًا تقديم التمر، وتكتفي بالقهوة فقط.
تُجمع القرى والمدن في فلسطين على أن فترة العزاء لدى الرجال والنساء لا تقل عن ثلاثة أيام، لكنها في بعض المناطق تمتد لأكثر من ذلك أحيانًا
ويرى نبيل علقم الباحث في الثقافة والمجتمع الفلسطيني، أن هناك فرقًا بين العادات والتقاليد في ممارسات العزاء بين المدن، فالعادات تتغير، أما التقاليد فتبقى راسخة. ويقول: "كان يُلام الذي لا يعزي، والناس وقت الوفاة تتكاتف، ومن مظاهر تكاتفها حضور بيت الأجر.
وبيوت الأجر في القرى غالبًا ما تُقام في مضافات أو دواووين، و كل عائلة لها ديوانها، ويحضر أحيانًا أشخاص للتعزية من القرى المجاورة، و النساء غالبًا يفتحن العزاء في بيت المتوفى، أو أولاده، أو أقرب الناس عليه.
في ترمسعيا قضاء رام الله، وصلت نسبة المهاجرين من السكان 70%، إلا أن تقليد فتح بيت العزاء للرجال والنساء لا يزال قائمًا، سواء كان المتوفى مقيمًا في الخارج أو في القرية. ويُفتح بيت العزاء ثلاثة أيام للنساء، وثلاثة أيام للرجال، ويبقى الأقارب والأصدقاء على تواصلٍ مع أهل الفقيد لدعمهم.
ويقدم أهل ترمسعيا القهوة السادة والتمر في أيام العزاء الثلاثة. ويشير علقم إلى أن تقديم الحلويات في القرى غير دارج، بل يعتبر شيئًا معيبًا، فتقديم الحلوى يرتبط بالأفراح وليس الأحزان، لكنّه يستدرك أن بعض المناطق كانت الحلوى تُوزع فيها عن روح الميت في أيام العيد، وكذلك الطعام أيضًا.
تقديم الحلوى في ريف فلسطين أمرٌ معيب، فهي مرتبطة بالفرح وليس الحزن، لكنها قد تُوزع عن روح الميّت في الأعياد
وحول اختلاف العادات والتقاليد المتعلقة ببيوت العزاء بين مناطق فلسطين التي يحكمها تجانس ثقافي واحد، يقول علقم لـ"ألترا فلسطين": "التجانس الثقافي لا يعني أنه لا يوجد فروق، هناك فروق أساسية بين منطقة الجنوب ومنطقة الشمال، فالبيئة الطبيعية والجغرافية تختلف، وتخلق نوعًا من التغيير في التفاصيل رغم أن البنية واحدة. فمثلاً، الملابس في ترمسعيا وجنوب قرى رام الله كانت أثوابًا مطرزة، أما في نابلس مثلاً فكانت الثوب غير المطرز.
ويشير علقم إلى أن شمال فلسطين أقرب للتراث السوري واللبناني، فيما الجنوب أقرب للتراث المصري أو البدوي، وهذه الفروق على عدة مستويات، مبينًا أن التمايز الثقافي جاء نتيجة ظروف تاريخية وجغرافية، فمنطقة القدس كانت تابعة للآستانة مباشرة، ولذلك فإن التأثير التركي في تلك المنطقة، أكبر منه في نابلس التي كانت تابعة لدمشق، ما يجعل العادات في نابلس شبيهة بسوريا، وهذا نتيجة الانفتاح التجاري بينهما في الماضي.
اقرأ/ي أيضًا:
البلصة من أركان الزواج الفلسطيني.. ماذا تعرفون عنها؟