ليس أمام الاحتلال وصانعي سياسته أيّ تصوّر أو تخيّل يفضي إلى خروج غزة من عباءة فلسطين، وإقامة دولة في القطاع لإزاحة الأخطار الأمنيّة كما حصل في سينا والجولان في سبعينات القرن الماضي، بعد ما حدث في ذكرى يوم الأرض، الأمر الذي جعل من هذا الأطروحة القديمة الجديدة ضرب من المستحيل.
إن لم تحل أزمة قطاع غزة فإن مظاهرات العودة ستصل كل المدن الفلسطينية التاريخية
بمسيرات العودة السلمية الرافضة للاحتلال والمطالبة بعودة اللاجئين، أثبت الغزيون أنّ الانقسام السياسي وإن ما يزال قائمًا، فهو انقسام على التفاصيل، وليس على القضية الأم. وهذه الرسالة وصلت على ما يبدو للجميع، ومن بينهم الاحتلال الذي يحاول دومًا التسويق لمشاريع التسوية غير المشروطة والرامية للتخلي عن حق العودة أو محاولة إسقاطه بالتقادم وعدم الانصياع لقرارات مجلس الأمن القاضية بعودة اللاجئين إلى ديارهم التي هُجّروا منها عام 1948.
يكمن فهم المأزق السياسي الإسرائيلي بالعودة إلى الوراء للحظة الأولى التي رفضت فيها إسرائيل خطة خارطة الطريق الرامية لقيام دولة فلسطين بحلول عام 2005 على أراضي حزيران 67، ونتيجة هذا الرفض العنجهي والاعتباطي الذي دلّ حينها على مدى تطرّف حكومة ارئيل شارون، والتي اتجهت لإعلان خطة من طرف واحد كبادرة حسن نية من أجل "السلام" لتفادي الضغط الدولي لرفض إسرائيل خارطة الطريق، تمثّلت تلك الخطة بفكّ الارتباط مع غزة، وإعادة الانتشار العسكريّ على حدودها، بحيث أصبحت كبرميل بارود يوشك أن ينفجر.
الاستفراد بقرار فكّ الارتباط وإملاء الشروط المجحفة على الفلسطينيين جعل من غزة منطقة شبه محررة ولكنّها محتلة كما جاء في بنود خطة شارون أنه وبعد خروج المستوطنين من غزة لن يبقى أي حجّة للقول أنّ غزة منطقة محتلة، أي بالمعنى أنّ الاحتلال أراد الخروج من غزة للمحافظة على الوضع الأمني والهدوء على الحدود فقط، ولا شيء غير ذلك، ووفقًا لهذه المبادرة وما تبعها من أقدار لربما وهي وفاة ياسر عرفات وانتخاب خلفه محمود عباس وإجراء الانتخابات التشريعية وفوز حركة حماس، وتشكيلها للحكومة، والحصار ومنع الدعم الدولي وتفاقم الانقسام بين السلطة وحماس، وبروز دور الاحتلال في التسويق لغزة بأنّها محررة، الأمر الذي أدى لتنامي قوّة حركة حماس في هذه المساحة وجعل غزة شبه دولة لديها حدود، وجيش، وسياسة خارجية وداخلية. لكن الاحتلال لم يتنبّه إلى أنّ إعلان غزة دولة يعني سيادة وشؤون دولية وعلاقات. واحتلال غزة يعني تكاليف وخسائر وإرجاع غزة إلى السلطة، ما يعني الضغط الدول والإحراج.
وبالتالي فإنّ بقاء الوضع الحالي على ما هو عليه، يعني تنامي قوة حماس وحروب وقتلى وتفاقم الأزمات الإنسانية، والسبب في ذلك أنّ شارون حينما قرر الانسحاب من غزة، لم يفتح قنوات سياسة قد تساعده في إزالة أعباء غزة عن كاهله، وخرج دون الجلوس على طاولة المفاوضات والتي كانت لربما تلزم السلطة بما يعرف بسيادة الحدود الأكثر اهتمامًا وحساسية لدى الاحتلال أو التفاوض حول الماء أو المجال الجوي والكهرومغناطيسي والمعابر التجارية، لكن غطرسة الاحتلال أوصلته الآن إلى طريق مسدود لا يحسن من خلاله التعامل مع قطاع غزة بعد حصار 12 سنة، تخلله قطع للماء والكهرباء، وثلاث حروب، وتحكم منسّق جيش الاحتلال في شؤون الاراضي المحتلة.
كل ذلك ساهم بدخول غزة داخل المناطق المحتلة من جديد، حتى وإن لم يكن هناك احتكاك مباشر لكنّ التحكّم في دخول وخروج المواطنين والبضائع أو إصدار التصريحات وعمل الشؤون المدنية وما إلى ذلك أسقط المفاهيم والأسس الأولية لقيام الدولة.
ولا بُدّ من الإشارة إلى أنّ الاحتلال ساهم ومعه كثيرين في تسويق مفهوم الدولة، لكنّه فشل بسبب الوعي الفلسطيني بقضيته وبسبب الإهمال المعيشي والتراجع في تقديم الخدمات وانهيار منظومة البنية التحية وكثرة الفقر والفقر المدقع، والبطالة وكل أشكال الأمراض الاجتماعية، كما ساهم في صقل شخصية الفلسطينيين في غزة على أنّ الاحتلال هو المسؤول الأول عن هذه الأزمة وهذا ما يعزز مكانته في المطالبة بحقّه في استرجاع أرضه.
مستقبلًا؛ سيجيب الاحتلال على السؤال الذي يفكّر به الآن: أين سيذهب سكان غزة بعد عشرة أعوام في ظلّ مساحة متقلّصة ونموّ سكاني متزايد؟ وبالمعنى العام، إن لم تحل أزمة قطاع غزة فإن مظاهرات العودة ستصل كل المدن الفلسطينية التاريخية.
اقرأ/ي أيضًا:
صور | مقاومة سلميّة في غزة.. إليكم أدواتها