11-مارس-2023
الانتفاضة الثالثة

عادت أنظار العالم إلى فلسطين خلال العامين الأخيرين، وتحديدًا منذ هبّة الشيخ جرّاح في نيسان/ابريل 2021، ولكن بشكل مكثف منذ بداية هذا العام. يتحدث المراقبون والمحللون عن انتفاضة ثالثة في الأفق. لكن المعطيات تقول أننا بالفعل ننظر إلى انتفاضة ثالثة قيد التنفيذ، إلا أن غالبية المحللين لازالوا يعتقدون -كما اعتادوا- أن انتفاضات الشعب الفلسطيني هي انتفاضات شعبية تلقي فيها الجماهير الحجارة على قوات الاحتلال وتشعل الإطارات وتغلق الشوارع وتغلق المحال أبوابها.

الانتفاضة أو الثورة الفلسطينية طوّرت من أدواتها التي بدأت بالحجارة إلى أشكال أكثر تأثيرًا، وبمستوى من التحوّل ربما لم تعهده أي ثورة ضد احتلال

وبالنظر إلى التحولات الكبيرة التي شهدتها مقاومة الاحتلال منذ ظهور المهندس يحيى عياش إلى اليوم، فإن الانتفاضة أو الثورة الفلسطينية طوّرت من أدواتها التي بدأت بالحجارة إلى أشكال أكثر تأثيرًا، وبمستوى من التحوّل ربما لم تعهده أي ثورة ضد احتلال. فهناك من بدأ بالسلاح وانتهى به مثل فيتنام، ومن بدأ بالعصيان المدني وانتهى به مثل الهند، ومن بدأ بالسلاح والعصيان المدني وانتهى بهما مثل جنوب إفريقيا، ومن بدأ بضرب من بعيد ووصل المواجهة الشاملة والحرب على كل من يتنفس من المستعمرين كما في الجزائر. لكن فلسطين بدأت انتفاضاتها داخل الأرض المحتلة بالحجارة والزجاجات الحارقة والمقلاع ثم البنادق الخفيفة إلى التفجيرات والصواريخ في غزة. لكن اختلاف المعطيات بين الضفة الغربية وقطاع غزة فرض الكثير من التحولات على العمل المقاوم باتجاهين متعاكسين. ومن المهم إلقاء الضوء على طبيعة هذه التغييرات وعلاقتها بالمؤسسة السياسية المتمثلة بالفصائل الفلسطينية والسلطة.

انتفاضة ثالثة بشكل جديد

عندما تتغيّر أدوات المقاومة، تتغير طبيعة الاحتياجات والمخاطر، ولابد من أن يتغير شكل العمل وطبيعة المشاركة والمشاركين. هذا التغيير بدأ في قطاع غزة منذ أن سيطرت عليه حماس، فحملت مجموعات المقاومة معًا مسؤولية كبيرة من خلال تشكيلات يتوجب عليها صد العدوان وكأنها تقف على حدود دولية وتحافظ على أرض محررة. صحيح أنها استفادت من عمق جغرافي صغير ولكن مهم، وعمق بشري صديق، لكنها أيضًا دخلت مرحلة من المخاطر نتيجة استخدام الاحتلال لأحدث تقنيات التجسس والملاحقة، واضطرت فصائل المقاومة إلى الدخول في المقاومة الإلكترونية محققة بعض الإنجازات المتواضعة، ولكنها بذلك رفعت معنويات الناس، حيث أن التكنولوجيا كانت دائمًا أداة الاستعمار التي يتفوق فيها بشكل كبير.

وأهم التغييرات التي طرأت على أعمال المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة كانت التنظيم والبناء الهرمي المتماسك والمركزي، وتحوّل فصائل المقاومة إلى كتائب وألوية ووحدات أشبه بتشكيلات الجيوش أكثر من فصائل مسلحة. هذه المركزية فرضتها طبيعة العلاقة مع الاحتلال، حيث فصلت الجغرافيا نوعًا ما بين منطقة معادية وأخرى صديقة للمقاومة، ما أعطى الأخيرة فرصة التخطيط والمراقبة والتنفيذ وفق سيناريوهات معدّة بدقة ومهنية عالية، وخطط بديلة وأخرى للطوارئ. إنها فعلاً تشكيلات عسكرية تعمل في البر والبحر والسماء.

لكن الحال في الضفة الغربية مختلف تمامًا، فالأرض كلها تحت السيطرة الأمنية للاحتلال، وغالبًا فإن المخاطر تحيط بالمقاومين من كل اتجاه، ولا توجد مناطق صديقة، بل كل مكان يحتمل المخاطر، والأمن الشخصي للمقاومين مؤقتٌ وقابل للتحول خلال دقائق.

تحولات العمل المقاوم في الضفة

يلجأ الناس إلى العمل ضمن تنظيم لما يمتلكه التنظيم من قدرات على التخطيط. لكن التنظيم ضعيف، ونقاط ضعفه كثيرة وغير محددة، وهذا مركز خطورته. التنظيم مكشوف نوعًا ما، فالنشطاء معروفون، وتحركاتهم تثير الشبهات، وهم عادة يتحركون حول مركز، وهذا المركز هو مكان جغرافي أو شخصية محورية، ما يجعل انكشافه مسألة وقت ومراقبة. كما أن التنظيم معرضٌ لنكسة كبيرة في حال اعتقال أو اغتيال شخصية محورية أو قيادية.

هذا الحال فرض على المقاومين الأفراد والتنظيمات تحولًا دراماتيكًا في العمل. فعلى مدى عقود منذ الانتفاضة الاولى عام 1987، شكّلت الفصائل والتنظيمات هيكلًا مركزيًا لمقاومة الاحتلال. لكن، ومع حملات الاعتقالات والملاحقات ودخول أدوات التجسس والمراقبة والتعقب، كشف الاحتلال وأحبط عشرات العمليات الضخمة وهي قيد التخطيط.

عهد التخطيط والتنفيذ الجماعي والتسلسل القيادي الهرمي للتنظيمات انتهى، وجاء دور الهيلكية اللامركزية، تلك التي تعطي القوة والصلاحيات والقرارات للأفراد، وتترك لهم تقدير المواقف

هذه العوامل الذاتية والجغرافية والأمنية فرضت على المقاومين في الضفة أن يكسروا النمط، وأن يتخلوا عن المركزية. والأمر لم يعد مرتبطًا بفصائل المقاومة، بل امتد إلى تنظيم فتح. فبالرغم من أن قيادة فتح لاتزال متمسكة بنهج رئيسها بشكل رسمي، فإن المقاومين من حركة فتح يعملون خارج نطاق التنظيم تمامًا. عدا عن ذلك، ففتح الرسمية لا تشبه المقاومين الذين صنعوا هيكلية لامركزية لأنفسهم في مخيم جنين وعرين الأسود. بالإمكان القول أن عهد التخطيط والتنفيذ الجماعي والتسلسل القيادي الهرمي للتنظيمات قد انتهى، وجاء دور الهيلكية اللامركزية، تلك التي تعطي القوة والصلاحيات والقرارات للأفراد، وتترك لهم تقدير المواقف.

من المركزية إلى اللامركزية

المقاومة في الضفة الغربية تعمل بشبه انفصال ما بينها، ولكن بتضامن محدد. فتنفيذ العمل المقاوم ليس منسقًا بين جنين ونابلس مثلًا، وإن كان التناغم والروابط التنظيمية والشخصية موجودة. وهذا جعل من الصعب على الاحتلال أن يمارس الضغط على تنظيم متكامل في أكثر من مكان، فهنا لا مراسلات ولوجستيات ولا مال ولا معلومات تنتقل ما بين مجموعات  المدن والمخيمات المختلفة، الأمر الذي جعل الاحتلال يواجه تنينًا متعدد الرؤوس، ونشوء مجموعات جديدة للمقاومة في طولكرم وجبع مؤخرًا يؤكد أن القضاء على مقاومة لا مركزية أمر صعب للغاية.

أما في داخل التنظيم الواحد، فيبدو أن طريقة عمل حماس في الضفة منذ عقود هي التي أثبتت أفضل وسائل مقاومة الاحتلال. فهناك فصل تام في حماس بين السياسي والمسلح، جهازان يبدو أنهما يعملان بتناغم ما ولكن بفصل تام تنظيميًا، وأصبح هذا حاجة ملحّة في السنوات الأخيرة، ليس فقط بفصل الجهازين، بل وأيضًا بتفكيك الترابط في الجهاز الواحد ما بين منطقة وأخرى، وهذا فرضته ملاحقة الأجهزة الأمنية الفلسطينية وآلة الحرب الاحتلالية. الأمر أصبح متشابهًا في فتح والجهاد الإسلامي، الكل يعمل ضمن مجموعات أصغر وأقل اعتمادًا على الآخر.

عودة القوة للشارع

لم يتوقف الأمر عند لامركزية التنظيم، فاللامركزية ربما وصلت إلى أن الفرد ضمن مجموعته بإمكانه أن يقرر وينفذ. فهناك الكثير من العمليات المسلحة التي نفذت داخل عمق الاحتلال بشكل فردي تمامًا، وبمبادرة ربما كانت وليدة يوم أو يومين، بدون مراقبة او تخطيط طويل الأمد. هذه القوة الممنوحة للأفراد لها تجلياتٌ بسيطةٌ ولكنها ذات دلالة كبرى، فالشاب الذي يطلق النار في تل أبيب ثم يمشي إلى يافا أو يجلس على مقعد بانتظار اعتقاله يشكّل تحديًا نفسيًا مرعبًا للاحتلال، لدرجةٍ أصبح إطلاق النار في الشارع نوعًا من الاستهتار بالاحتياطات الامنية التي يقوم بها الاحتلال.

ونزول القوة من الزعماء التنظيميين إلى الأفراد ليس أمرًا خاصًا بالمقاومين فقط، بل انعكس أيضًا على الشارع، فأصبحنا نرى المواطن العادي أكثر قدرة على التحدي والصمود، والشباب غير المنخرطين في التجربة أكثر استعدادًا لخوضها. فبعد أن تولت الفصائل وهيكلياتها ومؤسساتها لفترة كبيرة رعاية العمل الوطني وتنظيمه والتخطيط له، نرى اليوم أن الشارع يستعيد المبادرة ويقرر شكل المواجهة، فالقرار أصبح في الشارع، ولم يعد الناس بانتظار تعليمات التنظيمات وإعلاناتها وبياناتها.

البطل في نظر هذا الجيل هو شخص عادي قرر أن يرد على الاحتلال بطريقته. البطل هو شخص عادي لا مقدّس، صغير السن مع صفحة على فيسبوك وأصدقاء يسهر معهم ليلًا وينفذ عملية صباحًا

وليس بالضرورة أن يكون الناس تخلوا عن التنظيمات، ولكن عجزها عن إدارة التحرك والتوجيه والوقوف مع الناس في المقدمة جعلها تتراجع إلى الخلف أمام الأفراد الذين أثبتوا أنهم قادرون على القيادة دون أن يطلبوها، كما في حالة أبو رعد خازم وأبو عاصف البرغوثي.

البطل الجديد: وقود الثورة

منذ سنوات والأيقونة الفلسطينية في تحوّل. فقدت فلسطين عددًا من قياداتها يعلم الجميع أنه من الصعب استبدالها، وهي بالمجمل جيلٌ مؤسسي العمل المقاوم: جورج حبش، أحمد ياسين، ياسر عرفات، أبو علي مصطفى، فتحي الشقاقي، عبد العزيز الرنتيسي، والكثيرين غيرهم، ثم فقدت بعض الفصائل قادة من الجيل الثاني والثالث، وخصوصًا الفصائل التي لم تتوقف عن العمل المسلح.

لا يمكن التقليل من شان أي من هؤلاء القياديين ولا من تضحياتهم، ولكن رمزيتهم بالنسبة لمن لم يعاصرهم كأحياء تختلف عن ماذا يعنون للجيل الجديد الذي نشأ في ظل هبوط كبير في العمل الوطني وجهود تحرير فلسطين. هذا جيل لا يحمل أو يعلق صور القادة الراحلين على جدران البيت، بل هو جيل يسأل لماذا وصلت القضية الفلسطينية إلى هذا الحال؟

البطل في نظر هذا الجيل هو شخص عادي قرر أن يرد على الاحتلال بطريقته. البطل هو شخص عادي لا مقدّس، صغير السن مع صفحة على فيسبوك وأصدقاء يسهر معهم ليلًا وينفذ عملية صباحًا. البطولة في نظر الجيل الجديد لا علاقة لها بالعمل السياسي، ولا بقدر عال من الثقافة والتعليم والشهرة، بل البطل هو شخص بسيط كتب وصية بسيطة وربما منشورًا على حسابه. والبطل لديهم تخلو صورته من شعارات الفصائل وأعلامها. البطل الجديد هو شهيد، وغالبا استشهد أو اغتيل، وليس شخصًا يلقي الخطابات، وغالبًا ليس أسيرًا. وهذا له دلالات واضحة على ان الجيل الجديد يتفاعل مع ساحة المعركة لا مع كتب التاريخ والسياسة.

ماذا يعني كل هذا؟

بالنتيجة، أرى أننا نشهد الانتفاضة الثالثة، وأنها ستكون طويلة ومتغيرة النمط والحدّة. ومن أوضح سمات هذه الانتفاضة صعوبة إحباطها، فقد نقلت الحرب إلى عمقه بشكل كبير، ويشارك فيها عدد كبير من المقاومين غير المعروفين سلفًا، مما يجعل التنبؤ بنشاطاتها وإحباط عملياتها قبل التنفيذ أمر في غاية الصعوبة. كما أن الانتفاضة الحالية عصية على السيطرة، إذ أن المقاومين تعلموا بالتجربة أن التنظيم كإطار للعمل الثوري لم يعد آمنا. إن الشكل الذي يقدمه المقاومون حاليًا يلقى قبولًا شديدًا ويقدم لجيل كامل نموذجًا في العمل، والدليل هو انخراط شبان جدد تمامًا على العمل الوطني لتنفيذ عمل واحد فقط، يعلمون أنه الأول والأخير. وربما ستشهد المرحلة القادمة تضاعف أعداد هؤلاء الشبان وصولًا إلى مرحلة "ثوار الجبال" التي إذا انتشرت بشكل كبير فإنها ستقود إلى المواجهة المفتوحة.