09-ديسمبر-2019

يحيي الفلسطينيون في هذه الأيام ذكرى الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي اندلعت في شهر كانون أول 1987، هذه الانتفاضة العفوية التي جعلت الفلسطينيين يقفون على مرمى حجر من إقامة الدولة المستقلة على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة،  بفعل قيادة وطنية موحدة للانتفاضة استطاعت أن تعيد إلى منظمة التحرير الفلسطينية في الخارج هيبتها، لكن قيادة الخارج سرعان ما أصبحت أكثر قلقًا بفعل بزوغ قيادة شابة في الداخل، فعملت على سلبها من قرارها السياسي لصالح القيادة التقليدية في منظمة التحرير المقيمة في الخارج.

قيادة الخارج سرعان ما أصبحت أكثر قلقًا بفعل بزوغ قيادة شابة في الداخل، فعملت على سلبها من قرارها السياسي لصالح القيادة التقليدية

هذه الفكرة  خلاصة دراسة أصدرتُها، نُشرت في عام 1993 بناءً على تحليل الموقف السياسي الذي احتوته بيانات القيادة الموحدة، ولم تستند إطلاقًا إلى أي رأي مسبق، وهي خلاصةٌ بحثيةٌ في بيانات القيادة الموحدة خلص إليها باحثٌ يؤمن بتمثيلية منظمة التحرير الفلسطينية، لكنه يميز بين المنظمة كإنجاز فلسطيني وبين قيادتها التي لم تخضع حتى اليوم إلى أي تقييم علمي لأدائها، أو محاسبة على إخفاقاتها، ويخلط الكثيرون بينها وبين نقد قيادتها.

اقرأ/ي أيضًا: انتفاضة الحجارة: أساطير ونكات لإنهاء كذبة الجيش الذي لا يقهر

في المرحلة الأولى من الانتفاضة تركز القرار السياسي بيد القيادة الموحدة، واتسمت بالعمل على تعميق الالتفاف حول منظمة التحرير الفلسطينية ردًا على الحملة الإعلامية الإسرائيلية التي روجت بأن الانتفاضة اندلعت بسبب يأس الفلسطينيين من منظمة التحرير بعد خروجها في عام 1982 من بيروت. ومنذ البيان الثالث للانتفاضة بدأت القيادة الموحدة تروس بياناتها باسم منظمة التحرير الفلسطينية.

في هذه المرحلة دافعت القيادة الموحدة عن القرار الفلسطيني المستقل، وهاجمت بشدة أية محاولةٍ عربية لإضعاف التمثيل الفلسطيني، وهاجمت الشخصيات المحلية ذات الارتباطات السياسية الخارجية، وحققت خلال هذه الفترة التي استمرت تسعة شهور إنجازاتٍ تاريخيةٍ تمثلت بفك قرار الارتباط، وإفشال المشروع الذي طرحة الرئيس المصري لوقف الانتفاضة لمدة ستة شهور لإعطاء فرصة للحل السياسي، وشددت من لهجتها العدائية للولايات المتحدة الأمريكية معلنة مقاطعة زيارات جورج شولتز، وبقيت بذات الحدة حتى تراجعت الحكومة الأمريكية عن إغلاق مقر بعثة منظمة التحرير الفلسطينية.

خلال هذه المرحلة تعززت سلطة القيادة الوطنية الموحدة في إطار قيادة النضال الفلسطيني، ودخلت طور العصيان المدني، ومرحلة تفكيك "الإدارة المدنية" الإسرائيلية التي بدأ موظفوها بالاستقالة، واستقالة اللجان البلدية المعينة، ومقاطعة البضائع الإسرائيلية، والامتناع عن دفع الضرائب، ومقاطعة العمل في المستوطنات الإسرائيلية، وانتشار مفهوم الاقتصاد البيتي، والانفصال عن سلطة الاحتلال، والمطالبة بحرق الهويات الإسرائيلية، وتشكيل اللجان الشعبية واللجان المتخصصة لتلعب دورا بديلاً للإدارة المدنية الإسرائيلية، وتحقيق العصيان المدني الشامل.

في هذه المرحلة تطور الخطاب السياسي للقيادة الموحدة، وحدَّدت للمرة الأولى أهدافًا سياسية في بيانها رقم (17) تتعلق بتوفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني، ووقف إجراءات الاحتلال الضرائبية، وإلغاء القوانين العسكرية، والمطالبة بإيفاد مراقبين دوليين إلى الأراضي المحتلة، والإفراج عن المعتقلين والأسرى، وانسحاب الجيش من أماكن التجمعات السكنية، باعتبار هذه مطالب عاجلة لإقامة الدولة، واقترحت للمرة الأولى عشية لقاء غورباتشوف - ريغان في شهر أيار 1988 عقد مؤتمر دولي لحل القضية الفلسطينية.

في بيانها رقم 17، حددت القيادة الموحدة لأول مرة أهدافًا سياسية مثل توفير الحماية الدولية ووقف الإجراءات الضرائبية وإلغاء القوانين العسكرية

بتاريخ 27 أيلول 1988 رفعت القيادة من سقف مطالبها، بما ينسجم مع ازدياد زخمها وما حققته من نتائج على الأرض، وطالبت بانسحاب "إسرائيل" من الأراضي المحتلة عام 1967، وإلغاء إجراءات الضم وتفكيك المستوطنات، ووضع الأراضي المحتلة تحت إشراف الأمم المتحده، وعقد مؤتمر دولي كامل الصلاحيات، وإجراء انتخاباتٍ بلديةٍ تحت إشراف الأمم المتحدة، وتفيذ اتفاقيات جنيف.

اقرأ/ي أيضًا: في النسيان، الذاكرة والجسد

أصبح لهذه المطالب صدى بفعل النتائج التي حققتها الانتفاضة على الأرض، ونتيجة الواقعية والعمق السياسي الذي تمثلت به القيادة الموحدة رغم تعرضها للملاحقة من سلطات الاحتلال، حيث نجحت الانتفاضة بدفع مجلس الأمن لاتخاذ قرار يقضي بعودة المبعدين إلى مرج الزهور في لبنان، وساهمت بتحريك المنظمات الحقوقية والرأي العام الدولي المتعاطف مع الشعب الفلسطيني، وفتحت الانتفاضة آفاقًا سياسية على المستوى الداخلي والعربي والدولي، ونجحت خلال هذه المرحلة التي عكسها 27 بيانًا من بيانات القيادة الموحدة.

في هذه المرحلة استطاعت القيادة الموحدة للانتفاضة أن تحقق نتائج لم تستطع منظمة التحرير الفلسطينية تحقيقها من قبل، رغم انتشار مكاتبها الدبلوماسية في أنحاء العالم. وانتزعت المبادرة من قيادة المنظمة، وشكلت قيادة في الداخل على أسس جبهوية أعمق من تلك الموجودة داخل هياكل منظمة التحرير في الخارج.

يضاف إلى ذلك أن منظمة التحرير بعد خروجها من بيروت كان رصيدها في انحسار، وتعاني من التشتت والضعف، لذا وجدت القيادة  الموحدة واجبًا عليها أن تعزز قوة منظمة خلال الشهور التسعة الأولى من الانتفاضة التي تجسدت فيها سلطة القرار السياسي بيد القيادة الموحدة للانتفاضة.

المرحلة الثانية من الانتفاضة تمثلت بالمعركة الدبلوماسية، فبفعل الانتفاضة بدأت قيادة منظمة التحرير في الخارج باستعادة عافيتها، وعادت منظمة التحرير لتقود النشاط الدبلوماسي، وعادت تصريحات قيادة المنظمة مسموعة وتحظى باهتمام وسائل الإعلام، بينما بدأت القيادة الموحدة تفقد زمام القيادة السياسية للانتفاضة وتكرس عملها لقيادة الخارج.

في المرحلة الثانية من الانتفاضة بدأت قيادة منظمة التحرير باستعادة حافيتها، بينما بدأت القيادة الموحدة تفقد زمام القيادة السياسية للانتفاضة

في بيانها الذي أصدرته بعد مرور عام على الانتفاضة، بدأت القيادة تمهد في بيانها رقم (28) لعقد المجلس الوطني الفلسطيني الذي عُقد لاحقًا في شهر تشرين ثاني 1988، وفيه أُعلنت وثيقة الاستقلال الفلسطيني، وهو بداية سلب القرار السياسي من قيادة الانتفاضة التي بدأت تنقسم وتضعف بعد ذلك، وصدرت للمرة الأولى نسختان تحملان نفس الرقم من بيان القيادة الموحده، وتبنت القيادة الموحدة موقفًا سياسيًا جديدًا مؤيدًا لقراري مجلس الأمن الدولي 242 و 338، بعد أن كانت  تهاجم هذين القرارين وترفضهما بشدة.

اقرأ/ي أيضًا: معطيات إسرائيلية: الانتفاضة الأولى أوقعت 223 قتيلاً

انتقلت قيادة الانتفاضة من مرحلة إعلان القرار السياسي إلى تبرير المواقف السياسية لمنظمة التحرير، وتغيرت النغمة تجاه بعض الأنظمة العربية، وتحولت إلى لغة المبايعة لقيادة المنظمة في الخارج، وأصبح دورها التمهيد للتحركات الدبلوماسية للمنظمة، ومطالبة منظمة التحرير الفلسطينية بانتهاز الفرص السياسية، وصار خطابها دعائيًا للاعتدال السياسي، ولدعم جبهة السلام العربية.

في هذه المرحلة أصبحت التحركات الدبلوماسية ملكًا لقيادة منظمة التحرير في الخارج، وقيادة دفة العمل الميداني مسؤولية القيادة الموحدة في الداخل، وقد بدا الأمر ردة فعل على المحاولات الأمريكية والإسرائيلية لخلق قيادة بديلة لقيادة منظمة التحرير، لكن الحقيقة كانت خشية قيادة المنظمة من قوة قيادة الداخل التي استطاعت خلال أقل من عام تحقيق إنجازات سياسية لم تتمكن المنظمة من تحقيقها من قبل.

ورغم أن الانتفاضة كانت بمثابة رافعة لمنظمة التحرير، لكن قيادة الخارج آثرت مصادرة الموقف السياسي لقيادة الانتفاضة من الداخل، وهي ذراع منظمة التحرير، لكن الرأس خشي الذراع.

 قيادة الخارج آثرت مصادرة الموقف السياسي لقيادة الانتفاضة من الداخل، وهي ذراع منظمة التحرير، لكن الرأس خشي الذراع

التحولات التي جرت خلال هذه المرحلة لاقت آذانًا صاغية لدى الولايات المتحدة الأمريكية، وفي شهر كانون أول 1988 فتحت الولايات المتحدة حوارًا مع منظمة التحرير، وأطلقت المنظمة هجوم السلام الفلسطيني، ودعمت القيادة الموحدة فتح حوار مع القوى اليهودية الديمقراطية، وأصبحت بيانات الانتفاضة مروجة لسياسة المنظمة بعيدًا عن المطالب السياسية المباشرة التي ساقتها في المرحلة الأولى من الانتفاضة.

اقرأ/ي أيضًا: دولة الملثمين.. حين أُعلنت عقربا بلدة محررة

مهمة القيادة الموحدة كانت في هذه المرحلة خاصة في الشهور الأولى من عام 1989 رفض مبادرة شامير، والتحرك ضد انتخابات عامة مقترحة في الأراضي الفلسطينية، والتأكيد على دعم اللقاءات السياسية لمنظمة التحرير. رفضت القيادة الموحدة الخطة المصرية لإحياء خطة شامير، وأصبحت مروجًا لبرنامج السلام الفلسطيني الذي تقوده منظمة التحرير، وقد جاء ذلك في ظل حوار فتحته الولايات المتحدة مع منظمة التحرير، بينما كانت القيادة تطالب برفع مستوى الحوار مع منظمة التحرير.

المرحلة الثالثة من بيانات القيادة الموحدة تمثلت بضعفٍ في الموقف السياسي للقيادة الموحدة، بدأت بعد حرب الخليج، فقد فقدت القيادة الموحدة قدرتها التامة في التأثير السياسي، وهمشتها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في الخارج لصالح الشخصيات الوطنية الفلسطينية، وبدأت هذه الشخصيات تلتقي وزير الخارجية جيمس بيكر بمباركة المنظمة وغياب رأي القيادة الموحدة، وبدأت تنخرط هذه الشخصيات في العمل السياسي، وانخرطت في مؤتمر مدريد، وأصبح لها التأثير السياسي، وأصبح الشأن السياسي محتكرًا من قيادة المنظمة في الخارج.

كانت القيادة الموحدة مكونة من أربعة أطراف، طرفان مؤيدان للتحركات السياسية هما فتح وحزب الشعب، وطرفان رافضان لهذه التحركات وهما الجبهتان الشعبية والديمقراطية، ولذلك آثرت القيادة الموحدة تجنب الحديث في المواقف السياسية، والحديث فقط في نقاط الإجماع.

واعترفت القيادة الموحدة في إحدى بياناتها بوجود اجتهادين سياسيين داخل الأراضي المحتلة، وأيدت في بيانها رقم (70) الدخول في العملية السلمية، بل في بيانها رقم (73) أدانت تهديد الشخصيات التي التقت بيكر، وغابت القيادة الموحدة خلال خمسة شهور من بياناتها عن تناول مؤتمر مدريد للسلام، مؤكدة أن مهمتها صيانة الانتفاضة دون الخوض في الشأن السياسي، وبهذا تكون القيادة الموحدة قد طوت -بعد توقيع منظمة التحرير- صفحة من صفحات النضال الفلسطيني، صفحة تصرفت فيها قيادة المنظمة بمنتهى الأنانية السياسية، وآثرت فيها انتزاع زمام المبادرة السياسية من القيادة الموحدة، بعد أن كانت هذه القيادة ومن خلال الانتفاضة في مرحلتها الأولى التي استمرت قرابة التسعة شهور أقرب إلى تحقيق أهدافها المنشودة، وحققت ما لم تستطع قيادة الخارج في المنظمة تحقيقة لا قبل نشوء السلطة ولا بعد، بل غدرت بالوفد المفاوض في مدريد بقيادة الدكتور حيدر عبد الشافي ووقعت أوسلو، حيث غلبت مصالحها على الانتفاضة، وأفرغتها بعد أقل من سنة على بدئها من مضمونها.

أجزم أن قيادة الخارج لو تركت قيادة الانتفاضة بنفس آليات العمل التي بدأت بها خلال الشهور التسعة الأولى، مستغلة الزخم الشعبي والتأييد الدولي للانتفاضة لكنا خلال عامين فقط على أبواب دولة فلسطينية حقيقة، وليس كالكيان الحالي الراسخ تحت الاحتلال، ومراجعة إنجازات الشهور التسعة الأولى تدعم هذا الافتراض.


اقرأ/ي أيضًا: 

في المواطن اللاسياسي

منشورات تخليد الذاكرة: عن زمن فردوسي الصورة