المزيد من التدهور والهبوط لا يزال بانتظار الساحة الفلسطينية، بعد جولة "الردح" الأخيرة، والتي سبقها جولات بالطبع بين حركتي فتح وحماس، إثر منع كل منهما الأخرى، من الاحتفال بانطلاقتها؛ فحماس ممنوعة من العمل بالضفة، وكذلك الأمر بالنسبة لفتح بغزة، وامتداد ذلك للاعتداء على التلفزيون الرسمي بغزة، وتحطيم ممتلكاته.
هل يحقق الانقسام ما عجزت عنه الحركة الصهيونية خلال المرحلة الماضية؟
وما كشفته الأحداث الأخيرة، أن الانقسام بات يهدد النسيج الاجتماعي والوطني الفلسطيني، وينذر بمزيد من التدهور بعد أن وصل الأمر لتبادل اتهامات بالتخوين والجاسوسية، مع ما يرافق ذلك من تداعيات حلّ المجلس التشريعي وتهديد السلطة بإجراءات قاسية لإسقاط حكم حماس في غزة.
توظّف إسرائيل الانقسام الفلسطيني استراتيجيًا لمصالحها، ففي الوقت الذي تمرّ فيه الحركة الوطنية الفلسطينية بأزمة عميقة، دخلت مرحلة التآكل والتفكك الذاتي، بعد أن أصاب الانقسام الحركة الوطنية بالتشوّهات، لم تعد إسرائيل هي العدو والخطر الوحيد في نظر البعض.
فشل عملية التسوية، يتطلّب من الرئيس محمود عباس تغيير سياساته تجاه إسرائيل
فعلى الصعيد الداخلي الإسرائيلي، ومع اقتراب الانتخابات العامة البرلمانية، يوظف اليمين الإسرائيلي الانقسام الفلسطيني لمصلحته، بعد أن أقنع شرائح يهودية بصوابيّة سياسات نتنياهو تجاه الفلسطينيين، وتحديدًا ما تبقى من يسار يهودي وخاصة حزب "ميرتس" والذين يشعرون بالخيبة بعد فشل الحركة الوطنية الفلسطينية وخاصة السلطة الفلسطينية.
حزب "ميرتس" تحديدًا كان يراهن على بقاء السلطة وقيادة منظمة التحرير كشريك لـ "عملية السلام"، ولكن صورة السلطة السلبية في أوساط اليسار اليهودي الغربي الليبرالي، أثّرت على مواقف "ميرتس" السياسية من القضية الفلسطينية وانتقالها للتركيز على القضايا الاجتماعية والاقتصادية وحقوق الإنسان في المجتمع الإسرائيلي، بعد أن كان تركيزهم على إنهاء الاحتلال والاستيطان، والتوصّل لما يسمى "حل الدولتين"، ما يبقي قرار الحل السياسي بيد اليمين الإسرائيلي الرافض للحقوق الفلسطينية.
وترى إسرائيل أن الانقسام واشتداد الصراع على السلطة بين فتح وحماس سيؤدي لتعميق التنسيق الأمني بين السلطة وإسرائيل في الضفة، ما سيؤدي إلى إنجاح "صفقة القرن" المتمثلة بمشروع الكانتونات في الضفة وانفصال غزة بالكامل، ما قد يتسبب بضرب المناعة الوطنية الفلسطينية، وانهيار ثقة المجتمع الفلسطيني بالحركة الوطنية، وإحباط وعزوف الكثيرين عن الشأن السياسي والوطني. وهنالك الكثير من المؤشرات على الإحباط من فتح وحماس، وبذلك يحقق الانقسام ما عجزت عنه الحركة الصهيونية خلال الفترة الماضية.
أمّا على الصعيد العربي والإسلامي والخارجي، فتعمل إسرائيل والحركة الصهيونية على توظيف الانقسام لمصلحتها عبر قيام المؤسسات والجمعيات الصهيونية وسفارات إسرائيل في الخارج بتوزيع تسجيلات مصورة ونشرات تظهر اعتداءات الأجهزة الأمنية في الضفة والقطاع على الصحفيين والمتظاهرين والمواطنين، وعرض الجهتين وكأنهما نسختان عن الأنظمة العربية الفاسدة الدكتاتورية والتي تقمع الحريات، وذلك لإضعاف التعاطف والتأييد الدولي مع الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية، من خلال إظهار الفلسطينيين بصورة سيئة، وأنهم لا يقدرون على حكم أنفسهم، ولا يستحقّون دولة، وليسوا جديرين بالدعم السياسي أو المالي، ما يسهم في تراجع تبني المواقف الفلسطينية، والاقتراب أكثر من المواقف الإسرائيلية.
توقّع مسؤول إسرائيلي أن يندم بعض العرب على عداء إسرائيل السابق، ودعمهم للفلسطينيين
وفي مقابل مكاسب إسرائيل من الانقسام، يحذر أكاديميون وخبراء أمن، من أن الانقسام قد يجلب نتائج أمنية عكسية لإسرائيل، سواء عودة التوتر والتصعيد الأمني على حدود قطاع غزة، وعودة مسيرات العودة كما كانت في بداياتها، وذلك مع اشتداد إجراءات السلطة ضد حماس لإسقاط حكمها.
وكان رئيس الأركان الإسرائيلي السابق "جادي ايزنكوت " قد حذّر من انزلاق الأوضاع إلى حرب في الأشهر القادمة. وحذر خبراء إسرائيليون من أنّ استمرار الانقسام وفقدان ثقة الكثيرين بحركتي حماس وفتح، قد يشكّل مدخلًا لقوى أكثر تطرّفًا في غزة، ما سيعقّد البيئة الأمنية لإسرائيل.
وتحذر جهات إسرائيلية من حدوث انشقاقات داخل حركة فتح وانضمام عناصرها لتنظيمات إسلامية أو التوجّه لحزب الله الذي لن يتردد في التقاط الفرصة وبناء خلايا فلسطينية وتسليحها سواء في فلسطين أو في الخارج.
اتّساع الفجوة بين فتح وحماس لتصل ذروتها بحملات تسميم وتحريض وتخوين متبادلة، توحي وكأن الصراع الداخلي قد حلّ محل الصراع والتناقض الحقيقي مع الاحتلال
ويأتي حديث الرئيس محمود عباس عن عدم إمكانية قيام دولة فلسطينية في الـ 15 عامًا القادمة، كتعبير عن فشل عملية التسوية، الأمر الذي يتطلّب منه تغيير سياساته تجاه إسرائيل وإخراجها من إطار الرفض النظري، وتنفيذ قرارات المجلس المركزي والوطني فيما يخص إسرائيل والعلاقة معها.
كما أنّ اتّساع الفجوة بين فتح وحماس لتصل ذروتها بحملات تسميم وتحريض وتخوين متبادلة، توحي وكأن الصراع الداخلي قد حلّ محل الصراع والتناقض الحقيقي مع الاحتلال، ما ينذر بمصير مجهول لن يستفيد منه سوى الاحتلال، الذي يوظّف هذا الانقسام كجسر لعبور "صفقة القرن" وتصفية القضية الفلسطينية نهائيًا، مع ما قد يتخلل ذلك من عمليات طرد جماعي وتهجير عرقي.
اقرأ/ي أيضًا:
حقائق غائبة في تبعات الانقسام السياسي