05-يناير-2019

انتهت سنة 2018 بهذا المشهد: مواطنون ونشطاء وأعضاء كنيست من القائمة المشتركة، يرافقون الشيخ صياح الطوري (70 عامًا) وهو في طريقه للسجن لتنفيذ حكم بالسجن ثمانية أشهر، مضافًا إليها غرامية ماليّة قيمتها (36 ألف شيكل)، وذلك لرفضه مغادرة بيته وأراضيه في قرية العراقيب شمال غرب النقب، ومقاومته لعمليات التهجير الإسرائيلية، ومساهمته بإعادة بناء القرية التي هدمتها "إسرائيل" أكثر من 137 مرّة في العقد الأخير. 

  قد تكون العراقيب في النقب القرية الأكثر هدمًا على مدار التاريخ  

بداية قصّة العراقيب تعود لعام 1952، حين أصدر الحاكم العسكري الإسرائيلي قرارًا بإخلاء مواطني العراقيب التي تزيد مساحتها عن 150 ألف دونم، لمدة ستة أشهر بحجّة القيام بتدريبات عسكرية، وقدّم وعدًا للأهالي بالسماح بعودتهم للمكان مع نهاية التدريبات، إلا أنه تنصّل، ومنع عودتهم لقراهم بعد انتهاء المدة. 

ومع بداية التسعينات من القرن الماضي، عاد المئات من أبناء عشيرة أبو مديغيم ومن بينهم الشيخ صياح أبو مديغيم الطور، وقرروا بناء بيوتهم وخيمهم على أراضيهم المسجّلة في الدوائر العثمانية في بئر السبع عام 1905، والبالغة حسب السجلات 1300 دونم. وما إن عادوا لمنازلهم حتى بدأ مسلسل الملاحقة والتهجير والهدم والاعتقال. 

بلغ عدد الفلسطينيين البدو في النقب عشية النكبة 100 ألف، كانوا يستخدمون حوالي 3.5 مليون دونم من أراضي النقب البالغة حوالي 13 مليون، إلا أن 90% من مواطني النقب هُجّروا وطردوا على أيدي العصابات الصهيونية عام 1948، واضطروا للانتقال للسكن في قطاع غزة وسيناء والضفة الغربية والأردن، ولم يبق منهم في النقب سوى 11 ألفًا تضاعف عددهك في العقود السبعة الماضية نحو 25 مرّة، إلى أن وصل عددهم الآن 250 ألفًا، يتوزع نصفهم على 45 قرية من القرى غير المعترف بها إسرائيليًا، ومنها العراقيب. ويمنع الاحتلال تزويدها بالخدمات الأساسية كالتعليم والصحة والمياه والكهرباء والطرق والاتصالات، للضغط على سكّانها لترك قراهم. 

  تهجير إسرائيلي لفلسطينيي النقب وتشتيت تجمعاتهم، يقابله تثبيت وتكثيف للوجود اليهوديّ  

وبالتزامن مع مخططات وأساليب التهجير لسكّان النقب، كانت إسرائيل تعمل على تثبيت الوجود اليهوديّ في النقب الذي لم يكن قد تجاوز الألف مستوطن يهودي حتى سنة النكبة، أي أن نسبة اليهود والأراضي التي كانوا يملكوها لم تزد عن 1% من عدد السكان ومن مساحة أراضي النقب. لكنّ عددهم وصل اليوم إلى 400 ألف يهودي باتوا يسيطرون على أكثر من 97% من أراضي النقب، بعد مصادرة أراضي المواطنين العرب الذين لم يعودوا يسيطرون الآن إلّا على أقل من 350 ألف دونم. 

وترفض مؤسسات "إسرائيل" الاعتراف بعشرات القرى البدوية الفلسطينية في النقب، وتسعى لترحيلهم وتجميعهم جنوب شرق بئر السبع، لمنع أي تواصل مستقبلي بينهم وبين باقي الفلسطينيين في النقب، وللحيلولة دون تمددهم باتجاه الشمال الغربي سواء باتجاه الحدود الشرقية لقطاع غزة، أو باتجاه الحدود الجنوبية لمحافظة الخليل، منعًا لأي تواصل مستقبلي بين فلسطينيي النقب من جهة وفلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة من الجهة الأخرى، لإبقاء كافة التجمعات الفلسطينية مشتتة ومبعثرة. 

ولاستكمال مخطط إسرائيل في السيطرة على التجمّعات الفلسطينية في تلك المناطق، ولتهويد النقب وتقليل نسبة العرب إلى اليهود والتي تبلغ اليوم حوالي 37%، فقد أقيمت مستوطنات يهودية جديدة ومئات المزارع، وتقوم الآن بإقامة مدن كبيرة لإسكان الجنود الدائمين والاحتياط، ونقل معسكرات من الوسط للنقب. كما أن إغلاق مطار بن غوريون في حرب 2014 بعد قصفه من قبل حركة حماس، قد دفع إسرائيل لبناء مطار في جنوب النقب قد يكون بديلًا عن مطار بن غوريون، كما تخطط مؤسسات الدولة هناك ضمن مشروع تهويد النقب لجلب 300 ألف يهودي لإحكام حصار التجمعات العربية هناك، وتقليل نسبتهم إلى أقل من 25%. 

  ما تتعرّض له العراقيب في النقب يجسّد المشروع الصهيوني الإحلالي كما في الجليل والضفة والمثلث، ومقاومة أهلها تعبير عن الإرادة الوطنية الفلسطينية في مواجهة المشروع الصهيوني  

نجحت "إسرائيل" في إنهاء نمط حياة التنقّل للكثيرين من سكان العراقيب، من خلال نهبها للأراضي، ومنع التواصل الديمغرافي بين فلسطينيي النقب مع فلسطينيي الضفة والقطاع، لكنها ستفشل في إفراغ النقب من الفلسطينيين رغم استخدامها شتى أساليب البطش والقهر لكسرهم وإجبارهم على الرحيل وتقليل أعدادهم وتجهيل وأسرلة ما تبقى منهم. وستبقى كلمات الشيخ صياح الطوري الأخيرة مع رفاقه وأقاربه على باب السجن حاضرة حين أوصاهم على العراقيب والرباط فيها ووضعها أمانة في أعناقهم حتى الإفراج عنه ليواصل دفاعه عنها. 


اقرأ/ي أيضًا: 

سجن النقب الصحراوي.. أحلام بالثلج!

امرأة من النقب: عن سلوى التي احترق عالمها

فيديو | إسرائيل تسير على "درب النبيذ".. ما القصة؟