تجلس الجاهة في بيت العروس، يصب أصحاب الضيافة القهوة السادة للرجال، فيبادر أحد كبار الجاهة بتلاوة كلمات المدح والثتناء، ثم يسأل عن شباب العائلة وعم العروس وخالها، ويعرض عليهم البلصة طالبًا السماح لهم بأخذ العروس وإتمام مراسم الزفاف. هذا التقليد ما يزال حاضرًا في أعراس الخليل، حتى مع اختلاف تعاطي مناطقها مع البلصة، هذه التي تلاشت مؤخرًا من أغلب الأفراح الفلسطينية باستثناء بعض مناطق الخليل.
والبلصة همٌ آخر يُضاف إلى المهر الذي لا زالت تتمسك عوائل كثيرة برفعه مرهقة كاهل الشبان، الذين لا يترددون في التصريح عن امتعاضهم الشديد من هذه "الإجراءات المشددة" التي تجعل الزواج أشبه بالحج، لمن استطاع إليه سبيلاً، كما يقولون.
مناطق في الخليل لا تزال ملتزمة بعادة البلصة، وهي دفع العريس مالاً لعم العروس وخالها أو شراء ثياب لهما، وكذلك لحماته، من أجل السماح له بأخذ عروسه
وكلمة البلصة مأخوذة من الفعل "بلص"، أي دفع مالاً لأناس وأفراد دون وجه حق للحصول على غاية ما. وتعني البلصة في الموروث الشعبي الفلسطيني، أخد الشيء عنوة ودون حق.
اقرأ/ي أيضًا: هل تكسر أعراس الفلسطينيين ظهورهم؟
والبلصة، في تقاليد الزواج الفلسطينية، هي مبلغ من المال يدفعه العريس لعم العروس وخالها الكبيرين، إضافة لمبلغ آخر يدفعه لشباب عائلة عروسه، تسمى شالة الشباب، خاصة إذا خرجت من حارتها إلى مكان آخر، أو تزوجت من ابن عشيرة أخرى، بالإضافة لبلصة ثوب أم العروس، قبل أن يحفل العريس بعروسه.
ويؤكد الباحث والمؤرخ لشؤون التراث الفلسطيني إدريس جرادات لـ"ألترا فلسطين"، أن عادة البلصة انحسرت كثيرًا مقارنة بما كانت عليه قبل عام 2000، وجرت الكثير من المحاولات لتهذيبها والتخفيف من حدتها وتكلفتها، حتى تلاشت في العديد من المناطق، إلا أن بعض مناطق في محافظة الخليل لا زالت متمسكة بها.
وجرت العادة في البلصة، أن يكون ثوب الأم من النوع الفاخر، ويتراوح ثمنه قديمًا من 7 إلى 20 دينارًا أردنيًا، أما اليوم فيتراوح ثمنه من 100 دينار إلى 1000 ألف دينار، وتقوم بعض الأمهات بإعادته، أو التنازل عنه، أو إعادة بعض من المبلغ لابنتها.
وتروي الحاجة زكية المطور (83 عامًا) أن والدتها أصرت في يوم زفافها على أخذ ثوب الأم، ورفضت كل المداولات والمحاولات لثنيها عن ذلك، فدفع المختار لها خمسة دنانير. تتذكر تلك الأيام وابتسامتها تطغى على دموعها، وتكتفي بالقول: "كل إشي زمان بقى أحلى".
ويبين جرادات، أن بلصة العم والخال هي الهدم، وهو قمباز وحطة وعقال وحزام للخصر وحذاء (كسوة كاملة)، وكان يتراوح ثمنه قديمًا بين 10 إلى 30 دينارًا أردنيًا، فيما يقدر ثمنه اليوم بين 100- إلى 300 دينار أردني.
وبحسب العرف السائد، فإنه يتوجب على العم والخال الذي يأخذ البلصة أن يقوم يوم العرس بدفع مبلغ من المال للعروس يسمى النقوط، وأن يزورها في كل عيد ويعيدها طوال فترة حياته، وما ينطبق على بلصة العم والخال، ينطبق على شالة الشباب.
لكن في مدن أخرى مثل رام الله، كان "النقوط" واجبًا على أعمام العروس، وكذلك أخوالها، ولا يزال كذلك، بصرف النظر عن البلصة، ولا يزال ذلك قائمًا حتى يومنا هذا.
المختار "أبو إسماعيل الجعبري" أحد وجهاء جبل الخليل، قال لـ"ألترا فلسطين" إن عادة البلصة "نوع من الجهل"، مضيفا، أنه في الأعوام الأخيرة تلاشت البلصة إلى حد تكاد انعدمت، واقتصرت في أحيان كثيرة على الجانب المعنوي للتعبير عن تقدير واحترام أم العروس وعمها وخالها وشباب عائلتها.
في يطا جنوب الخليل مثلاً، لا تزال بلصة العم والخال قائمة لليوم، ولو بشكلها المعنوي، إذ تتوجه الجاهة قبل يوم العرس بثلاثة أيام، وقبل شرب الجاهة لقهوتهم، يسأل أحد الوجهاء إن كانوا يريدون بلصة، وفي أغلب الأحيان يكون الرد بأن "تفضلوا اشربوا قهوتكم" والإعلان عن إسقاط البلصة.
الشاب (أ.ط) 27 عاما من إحدى قرى شمال الخليل، يقول إن العرس يعني "مزيدًا من التكاليف والمصاريف الإضافية التي ما أنزل بها المنطق من سلطان". يُرجع الشاب موقفه هذا إلى فرض والد خطيبته عليه مبلغ ألف دينار كبلصة، وبعد جولات من المفاوضات بينهما تم تخفيض المبلغ إلى 600 دينار، لكن الشاب لا يزال يجدها ثقيلة.
بدأت البلصة تنتهي بدفع خال العروس وعمها المبلغ إلى العروس، ثم أصبحوا يرفضون المبدأ فتلاشت العادة نهائيًا إلا في بعض المناطق
يؤكد (أ.ط) أن البلصة غير شرعية، ولا يزال غاضبًا من إضافتها إلى مصاريف الزواج، فيما حاول "ألترا فلسطين" الحديث إلى والد عروسه، لكنه رفض الأمر بشدة، وأغلق سماعة الهاتف بعد سؤاله عن سبب إصراره على سرية البلصة، رغم أنها عادة متوارثة وليس هو من سنّها.
الحاجة أم موسى من سعير شمال الخليل، قالت لنا إنها التقت بخالها قبل نحو أربعة أشهر، فأعطاها 100 دينار كان قد أخدها من زوجها كبلصة قبل نحو 31 عامًا، معللاً ذلك أنها غير حق ودين في رقبته يتوجب إعادتها.
وتتحدث عوائل في قرى رام الله عن أن البلصة ظلت حاضرة حتى سنوات التسعين من القرن المنصرم، وفي ذلك الحين لم تكن تُقدم لشباب العائلة، بل كانت تشمل والد العروس إضافة لأمها وخالها وعمها، وتقدم ثيابًا أو مالاً، وقد بدأت تتلاشى بدفع خال العروس وعمها هذه المبالغ "نقوط" للعروس، حتى انتهت تمامًا.
اقرأ/ي أيضًا:
الزواج المسيحي.. سر الكنيسة وإكليل الانتصار
فساتين "حريم السلطان" تأسر قلوب عرائس غزة