10-مارس-2018

صورة توضيحية - عدسة نضال الوحيدي (Getty)

في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، تقيم خديجة (48 عامًا) في عزلة مع أبنائها السبعة، بينهم ثلاثة أطفال، بعد أن ارتكب زوجها جريمة قتل في نهاية عام 2015 بحق أحد أصدقائه في حي الزيتون شرق مدينة غزة. تُعرف خديجة عن نفسها باسم عائلتها، وكذلك يفعل أبناؤها، ويحاولون عدم الاختلاط كثيرًا بجيرانهم منذ انتقالهم إلى المخيم في شهر آذار/مارس من عام 2016.

تعرض أولاد خديجة منذ حادثة القتل لهجوم من عائلة الضحية، وبعد إعلان البراءة من القاتل، عبر صحيفة فلسطين الصادرة من غزة، باعت العائلة منزلها بنصف ثمنه ورحلت عن المنطقة، تنفيذًا لحل تم التوصل إليه من خلال وجهاء، تضمن ترحيل العائلة وأخذ القانون مجراه بحق الأب القاتل، مقابل عدم التعرض لأحد من الأبناء.

في غزة.. القانون يحاسب القاتل، والمخاتير يرحلون عائلته مقابل عدم تعرض أهل الضحية لهم

لاحقت المضايقات أولاد خديجة في مدارسهم وجامعاتهم لارتكاب والدهم جريمة قتل، تقول لـ"الترا فلسطين" إن العائلة ابتعدت عن مدينة غزة وانعزلت بهدف الاختفاء عن عيون عائلة الضحية، وعدم ملاحقة سمعة القتل لأفراد العائلة، لكن المحاولة باءت بالفشل، "فلا شيء يُخبأ في غزة، والكثير من المضايقات تعرضوا لها أبنائي، حتى أن أصدقاء لهم تخلوا عنهم لمجرد أن علموا بأن والدهم قاتل، وأبنائي مسالمين وملتزمين بصلاتهم ولا يلحقون أي سوء للآخرين" وفق قولها.

اقرأ/ي أيضًا: التشميس.. كل واحد ذنبه ع جنبه

والترحيل حل يتم اللجوء إليه بشكل أساسي بعد حوادث القتل في قطاع غزة، بإشراف مخاتير ووجهاء عشائر، رغم إلقاء القبض على القاتل وإخضاعه للمحاكمة. وفي حالات كثيرة، تجد عائلة القاتل نفسها مضطرة للسكن في مناطق مهمشة وعشوائية.

نهى (28 عامًا) دخلت في حالة اكتئاب حادة، بعد أن دفعها تعليق مهين من زميلتها إلى ترك عملها في مدرسة خاصة، ثم فسخ خطيبها ارتبطاهما استجابة لضغوطات عائلته، إثر ارتكاب شقيقها جريمة قتل في شهر تموز/يوليو من العام الماضي، وقد تبع ذلك كله ترحيلها مع بقية أفراد عائلتها لمنطقة جحر الديك شرق مدينة غزة.

تتلقى نهى جلسات تأهيل نفسي عند أخصائية نفسية في مركز التأهيل المجتمعي التابع لبرنامج غزة للصحة النفسية، دون أن تخبر أمها حتى لا تثير قلقها. تقول: "والدي متوفى منذ أكثر من 20 عامًا، وعشنا حياتنا كأيتام، وللأسف المجتمع نظر لنا كأصحاب ذنب كبير لأن أخي قاتل، وبدلاً من أن ينظروا جميعهم ما هي الأسباب التي دفعت أخي للقتل دون وعي ما هي الجريمة، يتطلعون للمحاسبة ورمي ذويه دون رحمة".

عائلات القتلة يرحلون غالبًا لمناطق مهمشة، لكن سمعة القتل تلاحقهم، وقد يتبع ذلك حالات طلاق لنساء من العائلة

في مطلع شهر شباط/فبراير من العام الجاري، كان قطاع غزة على موعد مع فاجعة كبيرة عندما أدى شجار داخل عائلة أبو عاصي في حي الصبرة بمدينة غزة إلى تفجير أنابيب غاز، ومقتل 8 أشخاص بينهم أفراد من العائلة. أول الحلول العشائرية والحكومية للسيطرة على الموقف كان ترحيل عائلة أبو عاصي من كل المنطقة، وعدم السماح بدخول أي من أفرادها إلى حي الصبرة.

اقرأ/ي أيضًا: غزة: القضاء العشائري رديفًا للمحاكم.. هل نجح؟

"الترا فلسطين" التقي أحد أفراد أسرة القاتل من عائلة أبو عاصي، يقول: "عشنا في حي الصبرة لأكثر من 35 عامًا، ورغم أن ظروفنا صعبة لم نضر أحدًا في المنطقة، ونعيش بسلام ومحبة مع كل أبناء الحي، والقاتل كان مريضًا نفسيًا ويقبل على العيادات النفسية، والكل في الحي يعرفون ذلك، لكن للأسف خرجنا من حينا مع كل الذكريات الأليمة، لكن السمعة من الواضح أنها ستلاحق أبناءنا".

مصطفى حجازي، محامي وناشط حقوقي، كان واحدًا من المدعوين لنقاش عشائري في هذه القضية، وخلالها عارض ترحيل عائلة القاتل بالكامل من المنطقة، واقترح أن يتم ترحيل زوجة القاتل وأبنائه فقط من منزل العائلة، لكن المخاتير في الجلسة عارضوه وتمسكوا بترحيل جميع أفراد العائلة ومنعهم من دخول حي الصبرة.

يقول حجازي لـ"الترا فلسطين" إن الترحيل يخالف تعاليم الدين الإسلامي، والقوانين النظامية، "فالمسؤولية في الدين والقانون عن التصرفات فردية بالدرجة الأولى وليست جماعية، وأحد المبادئ الأساسية للقانون الجنائي هي المسؤولية الفردية عن الجرائم، بالإضافة لمبدأ شخصية العقوبة، وهذا يعني أن العقوبة لا تطبق في القضاء النظامي إلا على شخص الجاني، وهذا ينسجم تمامًا مع الدين" وفق قوله.

يؤكد على هذه الرؤية، الداعية الإسلامية أحمد الغزالي من غزة، الذي رأى أنه "لا يجوز أن يُؤخذ بريء بجريمة مذنب"، وأشار إلى أن ترحيل عائلة القاتل عادة قديمة بدأت في شبه الجزيرة العربية، ثم انتقلت إلى فلسطين قديمًا، لكنها تتعارض مع شريعة الإسلام ومرفوضة نصًا في القرآن.

الترحيل لا يستند إلى نص قانوني، في القانون المعمول به في مناطق السلطة، ولا تجيزه الشريعة الإسلامية

ويضيف الغزالي لـ"الترا فلسطين" أن ترحيل العائلة أشبه بالانتقام منها، "أتعجب من أمر كبار العائلات والعقلاء من الخطباء، فهنا ظلم للعائلات التي ترحل لأجل قاتل. غزة منطقة ضيقة والمساكن غالية وهم يجبروهم على الرحيل بعيدًا، وسبق أن اعترضتُ في أحد المجالس على ترحيل عائلة من شمال قطاع غزة لأنها ليست مذنبة، وللأسف عارضني الكثير".

وأمام هذه المواقف التي تحمل المخاتير مسؤولية سريان الترحيل حتى الآن، تواصل "الترا فلسطين" مع عدد من المخاتير القائمين على مجالس حل الخلافات بين الأسر في غزة، وتحديدًا قضايا القتل منها، لكنهم جميعًا رفضوا إجراء مقابلة في هذا الموضوع "لأنه موضوع حساس"، فيما اكتفى بعضهم بالقول إن الترحيل هدفه منع حدوث مشاكل مستقبلاً أو حالات ثأر.

الباحث الحقوقي صلاح عبد العاطي، ينظر لترحيل عائلة القاتل على أنها عقاب جماعي، مؤكدًا أن القانون لا يعاقب أي شخص على جرم لم يرتكبه. وأضاف، "بعض الجهات العشائرية تلجأ له لحقن الدماء ووقف عمليات ردود الفعل، لكن ذلك لا يلغي خطورة الأمر باعتباره عقوبة لمستقبل أبناء العائلة".

ودعا عبد العاطي في حديثه لـ"الترا فلسطين" إلى إعادة النظر في الترحيل، مضيفًا، "الأزمات الاقتصادية والنفسية هي من تدفع لهذه الجرائم، وفي كل عائلة يوجد شخص مرشح لأن يكون بسمعة سيئة أو عبئًا كبيرًا على عائلته، والخطأ لا يعمم على العائلة".

وأشارت التقارير السنوية لمركز الميزان لحقوق الانسان، أنه في عام 2015 سُجلت في قطاع غزة 64 حالة شجار عائلي وأفعال ثأرية، وإطلاق نار، واعتداءات على مواطنين وممتلكاتهم. أما في عام 2016 فوقعت في قطاع غزة 77 حالة قتل، قبل أن يرتفع عدد أعمال القتل في عام 2017 بشكل طفيف ليصل إلى 81 حالة.


اقرأ/ي أيضًا:

لا تنتظر أن يطرقوا جدران الخزان.. افتحه

في غزة.. محامون يزوجون قاصرات بعيدًا عن المحاكم

نساء معلقات على حبال ظلم القانون والمجتمع