"العيد هذا العام مختلف في كل شيء، وليس فقط في المظاهر والعادات وإنما في المشاعر والأحاسيس"، تقول أم المعتصم زيتونية، التي تقيم مع عدد من أطفالها في خيمة بمدينة رفح، إثر نزوحها المتكرر عدة مرات من منزلها في مدينة غزة.
استشهد زوج أم المعتصم، ودمرت قوات الاحتلال شقتها السكنية في "برج مكة" في حي الرمال الجنوبي بمدينة غزة، وتتساءل بحرقة وألم: "كيف سيكون للعيد طعم وبهجة في هذه الخيمة، وقد فقدنا أحبتنا ومنازلنا؟".
استشهد زوج أم المعتصم، ودمرت قوات الاحتلال شقتها السكنية في "برج مكة" في حي الرمال الجنوبي بمدينة غزة، وتتساءل بحرقة وألم: "كيف سيكون للعيد طعم وبهجة في هذه الخيمة
تقيم هذه المرأة الأربعينية مع أبنائها في خيمة صغيرة غرب مدينة رفح جنوب قطاع غزة منذ زهاء ثلاثة شهور، وكانت قد اضطرت إلى النزوح لأول مرة في الأسبوع الأول للحرب من شقتها إلى مستشفى الشفاء بالمدينة ومكثت بها 33 يومًا، قبل أن تنزح إلى مدينة خان يونس جنوب القطاع، على وقع اتساع الاجتياح البري الإسرائيلي للمستشفى وأرجاء مدينة غزة.
طقوس غائبة
كثيرة هي العادات والطقوس التي تفتقدها أم المعتصم في هذا العيد، الذي تصفه بأنه "غير مسبوق"، حيث تشن إسرائيل حربًا ضارية، خطفت الأرواح والممتلكات، وتقول: "الحرب غيرت طعم الحياة، ودمرت عائلات بأكملها ومسحتها من السجل المدني، فكيف لنا أن نفرح بالعيد؟".
لقد زرعت هذه الحرب الحزن في كل بيت وشارع وحارة، وتضيف أم المعتصم: "ها نحن في الخيام، قضينا رمضان هنا، ويأتي علينا العيد وحالنا من سيء إلى أسوأ، والأيام أصبحت تشبه بعضها البعض، لم نشعر ببهجة رمضان والصيام والصلاة والقيام، وكذلك الحال بالنسبة للعيد الذي يأتينا والحزن يخيم علينا جميعًا".
في مثل هذه الأيام من كل عام، تكون النساء مشغولات يعملن على قدم وساق في "تعزيلة العيد"، من حيث التنظيف وترتيب المنزل، وتجهيز أدوات وأواني الضيافة للزوار، وبالنسبة لأم المعتصم فإنها كانت تنتظر هذه الأيام بلهفة، وتقول: "رغم ما في التعزيلة من تعب، ونقضي فيها بالأيام بمشاركة الأبناء من الأولاد والبنات، فلكل واحد فيهم مهمة يقوم بها، ولا يخلو عملنا من تبادل الضحكات".
"اغتال الاحتلال ضحكاتنا وحياتنا" تقول أم المعتصم، التي تفتقد خلال العيد الحالي للتسوق وكسوة الأبناء، ففي مثل هذه الأوقات كانت تصطحب أبناءها إلى السوق مرة أو أكثر في اليوم الواحد، من أجل شراء ملابس العيد الجديدة، التي تدخل البهجة على الأطفال.
تفتقد أم المعتصم كثيرًا مسجد "الأمين محمد" المجاور لمنزلها، الذي كانت تحرص على أداء صلاة التراويح به وكذلك صلاة العيد، ولم يعد له أثر، بعدما حولته غارة جوية إسرائيلية إلى أكوام من الحجارة المتناثرة.
اغتيال فرحة
وتتفق مع أم المعتصم جارتها في الخيمة المجاورة بمدينة رفح، راوية حبيب (34 عامًا)، وهي نازحة مع أسرتها من حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وهو أحد أكثر الأحياء التي تعرضت لما تصفه هذه السيدة بـ "الدمار الشامل"، وكان منزلها نفسه من بين مئات المنازل في الحي التي تعرضت للتدمير الكلي.
نزحت راوية حبيب مع أسرتها مرارًا داخل مدينة غزة وفي وسط القطاع، قبل أن يستقر بهم الحال في هذه الخيمة القريبة من مستشفى الكويت التخصصي غرب مدينة رفح، وتقول: "ستة شهور مرت منذ اندلاع الحرب، وتخللها رمضان، وجاءنا العيد، ومدارس أولادنا ضاعت، ولم نشعر خلال هذه الشهور الطويلة سوى بطعم الخوف والقلق الموت الذي تنثره قوات الاحتلال فوق رؤوسنا في كل مكان".
"ماذا أقول عن العيد؟ أي عيد هذا في ظل هذه العيشة المريرة؟" تتساءل راوية حبيب، وتضيف: "حياتنا قلبت رأسًا على عقب، ولم يعد فيها أي شيء نعرفه من حياتنا السابقة قبل الحرب، كل شيء تغير، وكأن غزة بلونين فقط، أسود الحزن، وأحمر الدم".
حياتنا قلبت رأسًا على عقب، ولم يعد فيها أي شيء نعرفه من حياتنا السابقة قبل الحرب، كل شيء تغير، وكأن غزة بلونين فقط، أسود الحزن، وأحمر الدم
صمتت حبيب وهي تجول ببصرها في الخيمة، وعادت بذاكرتها إلى أعيادها السابقة في منزلها قبل أن تحوله صواريخ الاحتلال وقذائفه إلى كومة من الركام، وقالت: "في مثل هذه الأيام كنا نقضي النهار كله في تعزيلة العيد، ونقوم بتنظيف البيت كله بكل زواياها وغرفه والمطبخ والحمامات، ونولي غرفة الضيوف اهتمام خاص، ابتهاجًا بحلول عيد الفطر، وفيه نتبادل الزيارات مع الأهل والأحبة".
وقبل العيد بيوم أو يومين كانت راوية حبيب تحرص على الذهاب إلى السوق، ومعاينة ما تعرضه المحال التجارية من "مضايف" جديدة، وهي الأواني التي تقدم فيها المكسرات والحلويات والشوكلاتة، وكذلك تشتري مفارش جديدة (غطاء للطاولات وأرضيات الأثاث). عادت للصمت مجددًا، قبل أن تقول: "هذا هو العيد الذي نعرفه، فهل ما نحن فيه الآن يحمل أي مظهر من مظاهر العيد وعاداته وطقوسه؟".
بكرة أحلى
وتعيش أم محمد عوض واقعًا مماثلاً لما تعيشه أم المعتصم وراوية حبيب، فهي نازحة من بلدة عبسان الكبيرة شرق مدينة خان يونس، وتقيم مع زوجها وأطفالها الأربعة في خيمة بمنطقة "حي السلام" المتاخمة للحدود الفلسطينية المصرية جنوب شرقي مدينة رفح.
وتتفق أم محمد معهن على أن "الحياة لم تعد هي الحياة"، لكنها في الوقت نفسه تبدي قدرًا كبيرًا من الإصرار والعزيمة على تحدي الواقع المرير، وتقول: "العيد فرحة ويجب أن نقهر الحرب والحزن وندخل الفرحة على أطفالنا، حتى لو بأقل القليل وبأبسط الإمكانيات المتاحة".
ليس بمقدورنا إعادة بناء منازلنا المدمرة بالوقت الحالي، واستقبال العيد كما اعتدنا، لكن بمقدورنا أن ندخل الفرحة على قلوب أطفالنا، بالتزاور والمحبة والعيدية
أم محمد معلمة في مدرسة حكومية ابتدائية، وترتبط بحب كبير مع الأطفال، ورغم أنها تفتقد لكل عاداتها وطقوسها التي تربطها بالعيد، إلا أنها تعكف على القيام بمبادرة طوعية لإدخال الفرحة على قلوب الأطفال في الخيام المحيطة بها، بتوزيع الهدايا عليهم ومنحهم "العيدية".
تقول المعلمة الثلاثينية: "ليس بمقدورنا إعادة بناء منازلنا المدمرة بالوقت الحالي، واستقبال العيد كما اعتدنا، لكن بمقدورنا أن ندخل الفرحة على قلوب أطفالنا، بالتزاور والمحبة والعيدية، وطالما أننا على قيد الحياة لابد من الأمل في غد أفضل".