11-أكتوبر-2024
(Getty) سوق مخيم النصيرات خلال العدوان على غزة

(Getty) سوق مخيم النصيرات خلال العدوان على غزة

من داخل سوقٍ استحدثته ظروف الحرب أمام بوابة جامعة الأقصى المُدمرة غرب مدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة، ترددت السيدة أم علي الكتناني (42 عامًا) في شراء حبات من الطماطم بعد أن ذُهلت من سعرها الباهظ، أعادتها للبائع ببالغ الحسرة التي بدت على وجهها البائس.

وتقول الكتناني النازحة من مدينة غزة لـ "الترا فلسطين": "إنّ الغلاء طال كل مناحي الحياة، وبات تجوالنا في الأسواق في غالب الأحيان لمعرفة الأسعار، فظروف النزوح لم تُبقِ في جيوبنا سوى القليل؛ مما كنا ندّخره لهذه الأيام العصيبة".

وبحسب أرقام البنك الدولي، يعيش ما يقرب من 100% من سكان غزة في الفقر. ووفق تقريره: "يصف الفقر متعدد الأبعاد في غزة وضعًا محزنًا للغاية، يؤثر في رفاهية الناس وصحتهم العقلية، ومن المتوقع أن تستمر التأثيرات في المستقبل". يترافق ذلك، مع ارتفاع مستويات انعدام الأمن الغذائي، مما دفع ما يقرب من مليوني شخص إلى حافة المجاعة.

نتيجة الحرب على غزة، فإن المنتجات التي كانت تُباع بالكيلو مثل اللحوم الحمراء والبيضاء والأسماك والتمور والقهوة وغيرها، أضحت الآن تُوزن للزبائن بالغرامات

غلاء فاحش

وتضيف الكتناني، أنّ سعر كيلو البندورة وصل إلى حوالي 35 شيكلًا (9.4 دولار)، والخضروات عمومًا ما تزال أسعارها مرتفعة، والفواكه كذلك، وما توفر منها لا يستطيع معظم الأهالي شراءه.

تؤشر الكتناني على صناديق الخضار وتقول يائسةً، إنها كانت توفرها لأفراد أسرتها كاملةً قبل الحرب بتلك الصناديق، "لكن استمرار الحرب أجبرنا أن نقتنيها بكمياتٍ زهيدة، وفي أكياس صغيرة".

وعلى الجهة المقابلة يَهُمُّ أبو محمد الأسطل (38 عامًا) في وضعِ حباتٍ من البطاطا في كيسهِ البلاستيكي بعد أن توصل مع البائع لأقل سعرٍ يمكن الوصول إليه، ويقول: "بثمن هذه الحبَّات كنت أشتري أضعافًا مُضاعفة وبكميات أكثر وبجودةٍ أعلى". 

ويضيف الأسطل: "الغلاء ضرب أطنابه على كل ما يُمكن أن تتخيله؛ فثمن قطعة الصابون وصل إلى 25 شيكلًا (6.7 دولار) بعد أن كان ثمنها لا يتجاوز 2 شيكل، ثم ما لبث بالهبوط، لكنه يبقى خياليًا، ضِف إلى ذلك سعر علبة الشامبو (صابون الاستحمام) التي وصلت إلى نحو ما يقرب من الـ 85 شيكلًا (23 دولار)، وهذه أسعارٌ فلكية".

يوضح الأسطل أنه استعاض المنظفات المستوردة بتلك المنظفات محلية الصنع، و"رغم قلة جودتها وانعدام الرقابة على تصنيعها إلا أنها تفي بالغرض"، على حد وصفه.

الأسواق خالية
يعيش ما يقرب من 100% من سكان غزة في الفقر | أحمد الأغا | الترا فلسطين

حال المنتجات الغذائية لا يختلف كثيرًا عن تلك الدوائية، فهي الأخرى باتت بأسعار مضاعفة، وأصبح الحصول على أقراص الدواء والعقاقير الطبيّة أو الحقن بأنواعها في غزة أمرًا صعب المَنال، وسط انهيار سُبل العيش وفقرٍ مُدقع وبطالةٍ متنامية.

كما طال شبح الغلاء حليب الأطفال والمكملات الغذائية والڤيتامينات وحفاضات الأطفال وغيرها من المنتجات الخاصة بالمرأة والطفل.

على شباك إحدى الصيدليات تقف روان أبو مسلم (35 عامًا) لشراء الحليب لطفلها، وتقول: "كان سعره لا يتجاوز 8 شواكل (2 دولار) أما اليوم فيصل سعره إلى 38 شيكلًا (10.3 دولار) وفي أحيان كثيرة أعلى من ذلك".

ليس هذا ما يعانيه السكان فحسب، إذ يشكو النازحون من نقصٍ حاد في بضائع ومستلزمات أخرى؛ مثل الملابس والأحذية والأغطية ولوازم القرطاسية وغيرها، مما يُعد أساسًا لأي حياة.

ومع أعتاب دخول فصل الشتاء وغرق خيام النازحين، تَكشّف النقص الواضح في الأخشاب والنايلون ومستلزمات بناء الخيام المؤقتة ما زاد أسعارها، بما ينذر بشتاءٍ أكثر قساوة على حياة النازحين.

أسواق غزة
يشكو النازحون من نقصٍ حاد في بضائع ومستلزمات أخرى؛ مثل الملابس والأحذية والأغطية ولوازم القرطاسية وغيرها | أحمد الأغا | الترا فلسطين

عادات شرائية جديدة

وتجلّت تأثيرات الحرب الإسرائيلية الممتدة لقرابة عامٍ كامل على تغيُّر العادات الشرائية للأُسر الغزيّة، واقتصر اعتمادهم على توفير احتياجاتهم الأساسية من السلع الضرورية أملًا في الوجود والبقاء.

كما أن كثيرًا من المنتجات أصبحت في مَصاف الكماليات التي غابت عن موائد الغزيين؛ كالألبان ومشتقات الحليب واللحوم والدواجن والأسماك الطازجة والعصائر والفواكه، ناهيك عن المكسرات والمشروبات الغازية والحلويات التي كانت متوفرة حتى لمتوسطي الدخل.

وفي أسواق القطاع المُحاصر لأكثر من 18 عامًا، بات مألوفًا شراء الخضار والبيض وغيره بحبّاتٍ معدودة، حتى المنتجات التي كانت تُباع بالكيلو مثل اللحوم الحمراء والبيضاء والأسماك والتمور والقهوة وغيرها، أضحت الآن تُوزن للزبائن بالغرامات.

وتعكس الأرقام الصادرة مؤخرًا عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني حول مؤشر غلاء المعيشة في قطاع غزّة خلال شهر آب/أغسطس المنصرم عن واقع معيشي قاسٍ ومرير.

إذ تشير الإحصائيات إلى ارتفاع حاد في مؤشر الغلاء المعيشي بنسبة 244 في المائة، فيما ارتفعت أسعار بعض السلع في القطاع لأعلى بكثير مما كانت عليه قبل العدوان الإسرائيلي في تشرين الأول/أكتوبر الماضي.

بات مألوفًا شراء الخضار والبيض وغيره بحبّاتٍ معدودة
بات مألوفًا شراء الخضار والبيض وغيره بحبّاتٍ معدودة | أحمد الأغا | الترا فلسطين

مُسببات الأزمة

يقول الباحث في الشأن الاقتصادي أحمد أبو قمر: إنّ "الاحتلال وضع خطة ممنهجة تتمثل في تعطيش السوق الغزيّة ثم تقطير البضائع عليها، بغية إحداث أزمة حقيقية في حياة السكان".

وأوضح أبو قمر في حديثه لـ "الترا فلسطين"، أنّ الاحتلال قلّص عدد الشاحنات إلى 20 شاحنة في أحسن الأحوال خلال الحرب، عوضًا عما يقرب من 450 شاحنة بالمتوسط كانت تدخل إلى القطاع، وبالكاد كانت تكفي حاجة السوق.

وأرجع الباحث الاقتصادي سبب الأزمة لمبدأ العرض والطلب، حيث زاد الطلب على السلع في ظل نقص حاد فيما هو معروض بفعل تقنين الاحتلال وعرقلة عبور الشاحنات، فضلًا عن إغلاق معبر رفح وفرض قيود مشددة على معبر كرم أبو سالم التجاري.

وذكر أبو قمر أن الاحتلال منذ بداية العدوان اعتمد على بعض التجار لإدخال السلع والبضائع، وهذا عزّز سياسة احتكار السوق، بدلًا مما كان معمولًا به قبل العدوان من مبدأ السوق الحرة، الذي يُتيح للتجار ممن لديه سجل تجاري بالاستيراد وتنوع المعروض في الأسواق وانخفاض سعره لصالح المواطن.

وحول سبب ارتفاع الخضروات، أشار الباحث الاقتصادي إلى أن سياسة قضم الأراضي التي سيطر عليها الاحتلال منعت المزارعين من فلاحة أرضهم وزراعتها.

وبيّن أبو قمر أن قطاع غزة كان مكتفيًا ذاتيًا قبل الحرب من الخضروات وبعض الفاكهة، بل إنه اعتمد على تصديرها لأسواق خارجية مثل الضفة والأردن والداخل المُحتل.

لكن، بحسب ما ذكره الباحث الفلسطيني، فإن تكدُّس النازحون في منطقة المواصي التي كانت تعتبر سلة القطاع من المنتجات الزراعية، فإن ذلك حرم المزارعين من زراعة أراضيهم بفعل أوامر الإخلاء الإسرائيلية نحو هذه المنطقة.

ونتيجة لذلك، يلفت أبو قمر إلى تنامي ظاهرة التضخم المُستورَد، بحيث تُسْتَوْرَد الفاكهة والخضار بأسعار باهظة من الأساس، والارتباط بأسعار المستورِد، وهذا ناجم عن قلة وجود المنتج المحلي للأسباب السابقة.

كما أشار إلى الرسوم المرتفعة للتنسيق وتأمين شاحنات النقل، وزيادة أسعار المحروقات، وبدل المخاطرة التي يتقاضاها عُمّال النقل.

ولفت أبو قمر إلى أن أضرار التضخم والغلاء المعيشي سبّب في تقليل القيمة الشرائية للشيكل، وهذا أدى إلى استنزاف جيوب المواطنين في ظل تردي الوضع الاقتصادي.

الاحتلال قلّص عدد الشاحنات إلى 20 شاحنة في أحسن الأحوال خلال الحرب
الاحتلال قلّص عدد الشاحنات إلى 20 شاحنة في أحسن الأحوال خلال الحرب | أحمد الأغا | الترا فلسطين

حلول مُنتظرة

وفي معرض حديثه عن الحلول، شدد أبو قمر على ضرورة الضغط على الاحتلال لفتح المعابر وإدخال الكميات الكافية لقطاع غزة، مما يحتاجه من المساعدات وبضائع القطاع التجاري. 

ودعا الجهات الحكومية ممثلة في وزارة الاقتصاد بضرورة وضع أولوية لإدخال السلع الأكثر أهمية، بحيث يُعْمَل على كفاية السوق منها، ثم التوجه للسلع الثانوية.

كما طالب أبو قمر جهاز حماية المستهلك بضرورة ضبط الأسواق، وإجبار التجار على بيع الكميات الواردة وعرضها في الأسواق مباشرة لعدم احتكارها.

ويأمل أبو قمر في أن تباشر الجهات المعنية نحو تتبع سلاسل التوريد من التجار، وكشف التجار الذين يحاولون استغلال هذه الظروف لضبط الأسعار بالقدر المعقول.