كلُ ناظرٍ إليها من بعيد، يوقن أن الموت أحكمَ قبضته فيها، حتى هلك النسلُ والشجر والحجر، لكن غزة تمتلك دومًا إجابةً لسؤالٍ تجيده وتحفظه عن ظهر قلب "كيف تنبعث حيةً من تحت الرماد". بعد 17 عامًا من الحصار الإسرائيلي الخانق على قطاع غزة بمختلف مستوياته، وإنهاكِ سكانه فقرًا وشُحًا ومرضًا وتحكّمًا بمعابره، التي هي بمثابة الرئة التي يتنفس منها، وفي يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، تكثفت كل هذه السياسات الإسرائيلية، وضمت في حرب إبادة مفتوحة على أهالي قطاع غزة.
حرب البدائل في غزة ليست معركة مع نقص الموارد فحسب، بل هي أيضًا معركة مع الزمن، مع الجغرافيا، ومع السياسات الدولية التي جعلت من هذا المكان سجنًا كبيرًا
لم يسلم شيء، من المنازل، والمستشفيات، والمدارس، والوزارات، والصيدليات، والمحلات التجارية، ومحطات الوقود والغاز والطاقة، وشبكات الإنترنت، والأشجار، والسيارات، كل شيء تم إعدامه وحرقه بالكامل، إمعانًا في قتل أيّ أمل لاستثماره أو حتى محاولة ترميمه وإعادته للحياة.
ووجد الناس أنفسهم مجردين من كلّ وسيلة قد تعينهم على البقاء، ومع استمرار الحرب دون أفق للتوقف، بدأوا حربًا بديلة فُرضت عليهم، تطورت معها قدرتهم الاستثنائية في تحويل الأشياء من استخداماتها العادية إلى وسائل لإنقاذ الحياة.
خيارٌ حتمي
فوق عربة مهترئة، يمتد لوح خشبي تصطف فوقه عبوات زيت الطعام "السيرج"، يقف سائقو السيارات أمامها وكأنها محطة للوقود، يتناول السائق أحمد عوض الزجاجة ويسكبها في "التانك"، كي يستطيع تشغيل سيارته التي يستخدمها ليكسب ما يقيت به عائلته التي تكتوي بلهيب النزوح والخوف والجوع معًا.
ويبين عوض لـ "الترا فلسطين"، أنه في أيّ مكانٍ آخر، قد يكون هذا الأمر غير مُصدَّق أو حتى غير معقول، لكنه أصبح خيارًا حتميًا في غزة، حيث لا يمكن انتظار فتح المعابر لإدخال الوقود والعودة إلى العمل، رغم اهتراء الطرق وصعوبة الحركة وخطورة القصف الذي لا يفرق بين أحد.
وفي زاويةٍ أخرى، تلفت عبوات منفردة يقلّ مرتاديها النظر، وتمتلىء بالوقود المصنع، والذي لجأ إليه الغزيّون بسبب شحّ الوقود وارتفاع سعره إن وُجد، ينبشون الشوارع وحطام المنازل لجمع المواد البلاستيكية ثم يتم تعريضها لدرجة حرارة عالية بشكل بدائيّ، فتخرج منها أبخرة يتم جمعها واستخدامها بديلًا للسولار والبنزين.
وحول جدواها يقول الشاب سامي السيد، أن عملية التدوير تحتاج إلى جهد مضنٍ، وجمع عددٍ كبيرٍ من المواد البلاستيكية لاستخراج كميات قليلة، وبجودة متواضعة، لكنها ساهمت بتشغيل الشاحنات الثقيلة، والمولدات الكهربائية لرفع المياه وتحليتها، وأحيانًا للسيارات القديمة التي لا تتأثر بنوعية السولار.
ووفقًا لتصريحات "الأونروا"، فإنه يُسمح بإدخال شاحنتين فقط من وقود السولار يوميًا، لتلبية احتياجات البنية التحتية الأساسية مثل المياه والصرف الصحي، فيما كان قطاع غزة يحتاج إلى حوالي 50 شاحنة من الوقود يوميًا لتغطية احتياجاته ما قبل الحرب.
كلٌ ينال نصيبه!
تسقطُ المساعدات الإنسانية جوًا، ويدفع الغزيّون أرواحهم لالتقاطها، فمن كانت غنيمته "البارشوت الفارغ" يسارع إلى بيعه، فيرتق أحدهم فيه سقف بيته المتهالك، أو ينتفع البائعون به بتغطية "بسطاتهم" المنتشرة في كل مكان، متحولة إلى مظلة صغيرة في حرارة الصيف.
معركةٌ لا ينفكّ أحدهم منها حتى يدخل في أخرى، لا مجال للتوقف أو التقاط الأنفاس، تنبعث الأدخنة التي تشهد على محاولات الشاب محمود عبد العال، في جمع الورق والخشب والإسفنج أو حتى النايلون، بهدف إطالة عمر النار أكثر داخل "صفيحة الزيت" الفارغة التي أعاد استخدامها لتصبح موقدًا للنار.
أما من لم ينل نصيبه من الأدخنة السابقة، فقد نال نصيبه من دخان الفحم الأسود، الذي حلّت نيرانه محلّ نيران الكهرباء المنبعثة من طنجرة الكهرباء المخصصة لإعداد الخبز البيتي، لقد فكّر أحدهم أيضًا ببعض التعديلات المناسبة لتصبح طنجرة الكهرباء المعروفة بـ"طنجرة فحم".
تستمر محاولات ابتكار الغزيّ أيّ حلول قد تخفف عنه وطأة هذه الأزمة، ما اضطر البعض مثلًا إلى إشعال الكحول الطبية لاستخدامها كبديلٍ عن الحطب، رغم قلّة فاعليتها وأضرارها الصحية.
ومؤخرًا، لجأ آخرون إلى استخدام "إسبريه الشعر" وهي مادة غازية تستخدم لتصفيف الشعر، تُفْرَغ في أنبوبة الغاز الفارغة، واستعمالها كبديلٍ عن الغاز الطبيعي.
ويوضح مصطفى أبو راس لـ "الترا فلسطين" أن هذا الأمر مكلّف ماديًا ولا يدوم لأيام طويلة، لكنه ساهم قليلًا في تخفيف عبء إشعال النار يوميًا، مشيرًا إلى استخداماتها البسيطة التي لا تتجاوز غلي الشاي أو القهوة.
بصيصٌ من ضوء
وفي مشهدٍ آخر يعكس إعجاز الغزيين، يحوّل الأهالي بطاريات السيارات بعد شحنها إلى مصدر لتشغيل "الليدات" من أجل إنارة البيوت والخيام ليلًا، بصيص من الضوء، لكنه بالنسبة للأهالي يُعتبر انتصارًا صغيرًا على ظلام طويل يمتد من الخارج إلى الداخل.
ويبلغ احتياج قطاع غزة من الكهرباء إلى 400- 500 ميغاواط، وما كانت تعمل به المحطة قبل الحرب لم يتجاوز 250 ميغاواط، أي بعجزٍ ملحوظ، إلى أن تم إيقافها بشكل كامل منذ بداية الحرب.
حرب البدائل في غزة ليست معركة مع نقص الموارد فحسب، بل هي أيضًا معركة مع الزمن، مع الجغرافيا، ومع السياسات الدولية التي جعلت من هذا المكان سجنًا كبيرًا.
خلف كل تلك المحاولات، يكمن ألم عميق ومأساة لا تُحتمل، وتذكير بأن غزة تعيش في حالة طوارئ دائمة، حرب البقاء كل يوم، حرب على الجمود، على القسوة، وعلى الحصار، وفي النهاية، هي حرب لإعادة تعريف معنى الحياة.