30-يوليو-2019

"ليس مهمًّا أن نكون قادرين على التغيير، المهم أن نبدي رأينا في القضايا الحقوقية، وأن نصف الانتهاك الذي يجري بأنه مخالف للقانون أو يشكل انتهاكًا دستوريًا، وقد فعلنا هذا مرّات عديدة وسجلنا مواقف، وعلينا أن نفعل ذلك في هذه المرة"، هذا ما عبّر عنه أحد الحقوقيين المحترفين في جلسة نقاش عاصفة حول "القرار بقانون" المتعلق بتقاعد القضاة فوق عمر الستين، وتشكيل مجلس قضاء أعلى انتقالي.

ردّ شاب ناشئ تخرّج من مقاعد الدراسة حديثًا، أن القاعدة التي يجب أن نحتكم إليها ليست النصوص القانونية. وأضاف "بل يجب أن نحتكم برؤيتنا لمصلحة المواطن، فهي السند الذي يجب أن ننطلق منه، وليست النصوص القانونية الجامدة".

أثار التناقض في المداخلتين سؤالاً مهمًا لديّ، فحواه: هل الرسالة الحقوقية تنمير أم تغيير؟ هل الأولوية الحقوقية تسجيل موقف على السلطات العامة أم رفع الظلم عن الناس وإزالة الانتهاك وآثاره؟ 

   مرسوم رئاسيّ بترقية 35 قاضيًا إلى المحاكم العليا والاستئناف والبداية، سبقه قرارا بتحديد سنّ تقاعد القضاة بـ 60 عامًا، وحل مجلس القضاء الأعلى، وإنشاء مجلس انتقاليّ  

هذه الفرضية مثلت أمامي في مجمل النقاشات الحقوقية التي ثارت على خلفية تشكيل المجلس الانتقالي، وانقسمت إلى رؤيتين مختلفين، رؤية ترى الحل بإلغاء "القرار بقانون" لمخالفته القانون الأساسي الفلسطيني، والعودة إلى ما كانت عليه الأمور قبل إصدار هذا القرار، أي العودة إلى الوضع السابق للقضاء، علمًا أنّ أنصار هذا القرار من بعض المؤسسات الحقوقية والمعنية بالشأن القضائي لطالما تحدثوا عن المصائب التي عانى منها القضاء الفلسطيني، ودعا بعضهم في أدبياتهم لتشكيل مجلس انتقالي للقضاء الفلسطيني. 

ودعا البعض الآخر إلى تقاعد القضاة على عمر 60 عامًا، لكن عندما تحقق ما كانوا ينادون به منذ سنوات، انقلبوا بشدة على ما جرى، بل ناصبوا الخطوة العداء، ورفضوها، ووصفوها بمذبحة في القضاء، وقالوا إنها جاءت في سياق مختلف عمّا دعوا إليه، علمًا أن لا شيء تغيّر في الواقع الفلسطيني منذ عام 2007 ولغاية اليوم، غير أنّ السوء يزداد سوءًا، وبدا كأن دوافع أخرى وراء تبدّل المواقف من جهة إلى أخرى؛ فالبعض دوافعه ايديولوجية حقوقيّة والبعض الآخر تبعيّة سياسية، وبلا شك أن بعض المواقف كانت لأسباب شخصية كون ما جرى كان بعيدًا عن نشاطهم.

     تحدّثون عن "اختراق دستوري" وكأننا فعلًا في بلد دستوري فيه ثلاث سلطات، تجري فيه الانتخابات كل أربعة أعوام، حرية التعبير فيه مصانة      

يتحدّثون عن "اختراق دستوري" وكأننا فعلًا في بلد دستوري فيه ثلاث سلطات، تجري فيه الانتخابات كل أربعة أعوام، حرية التعبير فيه مصانة، واختراق الدستور يهدد قيمه الديمقراطية، كأننا نعيش في السويد أو سويسرا عند الحديث عن القيم الدستورية. علمًا أن الكل يرى بالعودة للحياة للدستورية وإجراء الانتخابات العامة حلًا يمكن أن ينجم عنه إصلاح النظام السياسي، لكن الخطاب المنادي بهذه الانتخابات ضعيف وخجول ولا تقف خلفه قوىً سياسيّة أو مجتمعية أو حقوقية تريد أن تجعله أولوية فلسطينية.

أنصار الرؤية الثانية والتي تضم عددًا كبيرًا من مؤسسات المجتمع المدني، أصدروا بيانًا وضعوا فيه ضوابط لعمل المجلس الانتقالي، والتقوا بجلسة صريحة مع رئيس وأعضاء المجلس الانتقالي وقالوا إن رسالتهم هي التغيير، قالوا إنّهم يقرون بأن كل ما جرى لا ينسجم وأي قيم دستورية، وأن كل المؤسسات العامة في البلاد غير دستورية، وإن كان لابد من تأطير ما جرى في إطار حقوقي، فهو أقرب إلى العدالة الانتقالية. يقرّون أن الجراحة التي خضع لها القضاء فيها خسارة كبيرة لقضاة أفاضل، لكنهم اعتبروها في ذات الوقت فرصة يجب استثمارها لإصلاح القضاء وتعويض الضحايا في نفس الوقت، انطلقوا برؤيتهم من معاناة الناس أمام المحاكم، وطول أمد التقاضي. 

يعون أنّ القضاة الشرفاء هم الأكثرية، لكنّهم يعون أن هناك قلة دارت حولهم شبهات، لكن الأدوات القانونية المعمول بها لم تكن يومًا ما قادرة على نفيها أو إثباتها، فقرروا دعم التغيير انطلاقًا من حماية حقوق الناس. يبررون رأيهم من منظار أن حماية الحقوق أولى من تقديس النصوص، خاصة حين تكون النصوص غير قابلة للتطبيق في الواقع، فالنصوص التي تفشل في حماية الحقوق لا يجوز تقديسها، فكانوا عرضة للتنمير، ووصفوا بالموالين، وبالأتباع، وبـ "زلم الحكومة"، بل أشك أن بعضهم يتمنى فشل تجربة الإصلاح القضائي في موقف يبدو أقرب إلى الأحقاد الشخصية، وليست بالضرورة مهنية.

      حقوق الناس أولى من تقديس النصوص الجامدة        

نعم حقوق الناس أولى من تقديس النصوص الجامدة، وإن كان الأمر يتعلّق بالدستورية من عدمها، علينا أن نقرّ بأن كل السلطات في الضفة الغربية وقطاع غزة فاقدة لدستوريتها منذ أكثر من ثمانية سنوات، وكل التشريعات التي صدرت بـ "قرار بقانون" عن الرئيس أو أصدرها المجلس التشريعي في غزة غير دستورية، ورغم عدم دستوريتها فقد أعطتها كل المؤسسات الحقوقية، الشرعية التي تحتاجها، فعشرات المواقف التي صدرت عن المؤسسات الحقوقية كانت تبدأ بعبارة "رغم عدم دستورية القرار بقانون... إلّا أننا نود أن نبدي ملاحظاتنا على هذه القرارات"، ويعدّون ورقة تحليلية على أمل أن يتم تضمينها في مشروع "القرار بقانون".

لا أعتقد أن أيًا من حاملي وجهات النظر المذكورة يحمل الحقيقة الكاملة، فلكل وجهة نظر مخاطرها وبذور فنائها، فإلغاء القرارين بقانون المتعلقين بالتقاعد والمجلس الانتقالي يعني العودة إلى المربع الأول، وعدم ممارسة رقابة مجتمعية مشددة على أداء المجلس الانتقالي ومساعدته في عمل قد يهدده بالفشل، لذا لا بديل من منهجية جديدة تشدد الرقابة على أداء المجلس الانتقالي في عملية الإصلاح، والتسريع في إعادة القضاء للعمل وفقًا لقانون السلطة القضائية. 

وأعتقد أن صدور مرسوم لترقية قضاة إلى محكمة العدل العليا، قد وضع اللبنة الأولى التي تتيح بناء المؤسسة القضائية، وتضمن العودة إلى الأدوات القانونية غير الاستثنائية في عمل القضاء، فقد أصبح لدينا أقدم قاض يصنف أقدم قضاة المحكمة العليا، ولدينا قضاة محكمة عليا، ولدينا رؤساء استئناف، وهذه لبنات تمهّد لإعادة هيكلة القضاء وتنقذه من أيّ مخاطر تهدده فيما لو استقال المجلس الانتقالي.

إن الرسالة الحقوقية في فلسطين بحاجة لإعادة نقاش، عليها أن تفحص الآليات التي يمكن من خلالها تعزيز مصداقيتها المجتمعية، فلا يعقل مثلًا أن تصدر مواقف متناقضة عن مؤسسة في الضفة الغربية وأخرى في قطاع غزة، ويقف على رأس المؤسستين شخص واحد؛ مؤسسة الضفة تطالب بإعطاء المجلس الانتقالي الفرصة لإصلاح القضاء، ومؤسسته في قطاع غزة تطالب بالتراجع عن القرار وتصفه بغير الدستوري. 

في مثل هذه الحالة لا يمكن حمل موقفين متناقضين؛ لا بُد من اختيار الموقف الأقرب إلى الرؤية الحقوقية، ولا يجوز جمع الحالتين، انطلاقًا من مبدأ الشفافية والابتعاد عن تضارب المصالح.

على المؤسسات الحقوقية أن تقف أمام الزلزال القضائي وعليها التعامل مع نتائجه بموضوعية، عليها أن تلحظ أن نشاطها الأخير بالشأن القضائي لا علاقة له بأي تمويل أجنبي. علينا أن تفتح الباب لنقاش فاعلية التمويل الأجني وأثره، وكيف صرفت بعض الجهات العاملة في قطاع العدالة ملايين الدولارات دون أن تترك أي أثر سوى محاولة تسويق بعض قصص النجاح الوهمية على الممول الذي يعلم أنها وهميّة  وغير حقيية، لكنه كان يقبل بها كي لا يوصف نشاطه بالفشل.

      لنا تجارب رائدة في حقوق الإنسان، لكن، لا بُد من تقييم الرسالة الحقوقية وأدواتها ومدى ملامسة برامجها لقضايا الجمهور ومصالحه      

أعتقد أننا بحاجة لإعادة تقييم عمل المؤسسات الحقوقية الفلسطينية، من باب النقد الذاتي كما كان يسميه اليساريون القدامى، علينا أن نقيّم الرسالة الحقوقية، وأدواتها التكتيكية، ومدى ملامسة برامجها مع مصالح الجمهور. علينا أن نقيّم انغلاقها وضعف الحياة الديمقراطية فيها، تنافس برامجها بدل تنسيقها، علينا أن نقف أمام تنمير بعض النشطاء لزملائهم أو للرؤى التي ينادون بها بصورة يومية، وهم ذاتهم لم يجرؤا يومًا بالتنمير كلمة واحدة على مسؤول أمني أو أداء جهاز أمني، علينا أن نفتح كل هذه الأبواب للنقاش من باب تعزيز المصداقية والمهنية، لا من باب جلدها.

ما ذكرته لا يلغي بأنّ لنا تجارب رائدة في مجال حقوق الإنسان؛ لدينا مثلًا تجربة رائعة لمؤسسات حقوقية فلسطينية في الملف الحقوقي الدولي، وحمل شكاوى الجمهور والتوعية،  ومتابعة ملف جثامين الشهداء، وحمل ملف الإصلاح القضائي بفاعلية خلال الأعوام الأخيرة، والتوثيق المهني لجرائم الحرب في قطاع غزة والضفة الغربية، ومتابعة الفساد ونشر الحريات الصحفية، وغير ذلك من الإنجازات الحقوقية التي نقف أمامها بكل إجلال وإكبار، فعلًا نحن بحاجة إلى تقييم تجربتنا الحقوقية بعد مرور أربعين عامًا على إنشاء أول مؤسسة حقوقية فلسطينية، وميلاد عشرات المؤسسات الحقوقية الفاعلة في المجتمع الفلسطيني. 


اقرأ/ي أيضًا: 

القضاء والإعلام.. وصراع أباطرة الحكم

سقوطٌ مُدوٍ للتعليم القانوني في تعيين قضاة

إنهم يخشون إصلاح القضاء!