هكذا كان الطفل موسى ابن سيدي الشيخ يظن عندما يصحو من النوم ليشاهد الشمس تنهض من خلف الجبال شرق قريته عقربا، سيعاوده هذا الظن وهو يخترق الصحراء ليعمل في الكويت، ثم وهو يتدرب مع الجيش في الأنبار العراقية، وبعد ذلك في زنازين سجون عسقلان وبئر السبع.
عندما دخلت معتقل عسقلان كان المشهد غريبًا؛ لم يكن أي من الأسرى يستطيع المشي بخط مستقيم!
"عندما دخلت معتقل عسقلان عام 1969، كانت مدة الفورة نصف ساعة فقط، وكان مشهدها غريبًا، لم يكن أي من الأسرى يستطيع المشي بخط مستقيم، فجميعهم من أسرى الدوريات المصابين إمّا بالرصاص خلال العمليات الفدائية أو خلال التعذيب، وكان الاستفزاز والشتم الشغل الشاغل للسجانين اليهود الذين يتقنون العربية بلهجات مختلفة، من هُنا جاء الإضراب عن الطعام يوم 5 تموز عام 1970".
يسترسل موسى الشيخ أحمد ابو كبر، المولود في قرية عقربا عام 1946، في سرد ذكريات الاعتقال عامّة وذكريات ذلك الإضراب على وجه الخصوص، فيقول:
"قرار الإضراب ليس سهلًا، خاصة عندما يكون الأسرى مصابون، والإضراب أصعب بكثير من القتال العسكري في الميدان، ففي القتال ومع أول صلية رصاص خلال الاشتباك يتبخّر إحساس المقاتل بالزمان والمكان ومطالبه الإنسانية، أمّا في الإضراب فإن المعاناة تتحوّل إلى شاشة عرض كبرى ثابتة في ذهنك، وتزداد وضوحًا ساعة بساعة، حتى وأنت تشعر بالدوار.
يستحيل الجدار رغيفًا كبيرًا من الخبز، ويصبح الجدار الآخر رفوفًا من الحلويات، تتدنى نسبة السكر، ويصبح أنفك قادرًا على شمّ رائحة الطعام عن بعد مئات الأمتار، وعندها سيقوم السجانون بشوي اللحمة على أمل النيل من عزيمتك".
اقرأ/ي أيضًا: سجن النقب الصحراوي.. أحلام بالثلج!
يستذكر رحيله إلى العراق للانخراط في جيش التحرير، ودورات الصاعقة وحرب الأيّام الستة وانتماؤه لشباب الثأر، ثم لفتح بعد معركة الكرامة، والاشتباك المسلح الذي أصيب به قرب طوباس، ويضيف:
"ولكنّها الإرادة التي يجب أن تنتصر ولو من خلال الشهادة، إرادة شبيهة بإرادة عبد القادر أبو الفحم، كان مثلي ضابط صف في جيش التحرير وتركه للانخراط في الفصائل الفلسطينية، فنفذ عمليات عسكرية مميزة وأصيب بعدة رصاصات قاتلة، ورغم أن كافة المعتقلين طالبوه بفك الإضراب إلّا أنه رفض قائلًا: أفضّل الموت على الانسحاب من هذه المعركة، وهكذا كان".
"الإضراب لم يرفع مدة الفورة فقط، بل سمح بدخول الكتب والأقلام والدفاتر، وهنا نشأت حالة ثقافية حوّلت السجن إلى أكاديمية، قرأت كل الكتب التي تتحدث عن التاريخ والمعارك العسكرية وشاركت في الكتابة للمجلة الثقافية عن معركة الكرامة وعن عقيدة الحرب الإسرائيلية، انزعج المحتل من كتابتنا فتم ترحيلي بين عدة معتقلات، ونقل فاضل يونس ومحمد القاق وحافظ أبو عباية الذين كنت أكتب بمساعدتهم إلى زنزانة رقم 7 في سجن غزة، ولقد أصبحت (زنزانة رقم 7) فيما بعد عنوان مجموعة قصصية كتبها فاضل ورصد فيها وقائع حياة الأسرى".
موسى الشيخ وبعد تحرره مع رفيقه وابن بلده محمد البيروتي عام 1983، أصدرا مجلة "صوت الأسير"، ثم ألّفا رواية "الشمس تولد من الجبل" وكان كل همهما أن يتم توثيق البطولة والملاحم التي سطّرها إخوتهم المناضلون قبل وأثناء وبعد التجربة الاعتقالية، إيمانًا منهم بأن الشعب الذي لا يخلّد أبطاله يفقد تاريخه.
اقرأ/ي أيضًا:
بروفايل | وليد دقة.. "رجل الزمن الموازي"