في مدينة عسقلان الكنعانية القديمة، أنشأ الانتداب البريطاني، مقرًا لقيادة الجيش ولاستقبال الوفود البريطانيّة الرسميّة. أضيف إلى المبنى في حينه جناح خُصص كمركز تحقيق وتوقيف، ليكون بذرة لما سيصير لاحقًا سجن "عسقلان" سيء الصيت.
بعد هزيمة الجيوش العربية أمام الجيش الإسرائيلي عام 67 وتصاعد المقاومة الفلسطينية وازدياد عدد المعتقلين، تم افتتاح سجن عسقلان المركزي عام 1970، وشهد الافتتاح تنكيلًا بالأسرى الفلسطينيين الذين كانوا يمرون وسط صفين من السجّانين، بينما الهراوات تنهال على أجسادهم.
قاوم الأسير الفلسطيني سجّانه، طارقًا جدران أمعائه الخاوية، رفضًا لمحاولات عدوّه إذلاله والحطّ من كرامته
ورفضًا للإهانات المتتالية، ومحاولات الحطّ من الكرامة، بدأ الأسرى الفلسطينيون في سجن "عسقلان" الإسرائيلي، خوض معركتهم. وبالطبع لم يكن سلاحهم سوى الأمعاء الخاوية، يواجهون فيها عدوّهم، أملًا في تحسين ظروف الاعتقال، وصولًا لانتزاع حقّهم في حياة خارج الجدران.
في تلك الفترة، وتحديدًا عام 1970، كان من سيعرف لاحقًا بـ "أسطورة عسقلان" على وشك أن يصل السجن، بعد أن اعتقل وعُذّب لثلاثة أشهر في مستشفى بئر السبع، وقد كان مصابًا بعشرات الرصاصات، بعد خوضه الاشتباك الأخير مع جنود الاحتلال في مخيم جباليا في قطاع غزة.
مع وصول الجريح عبد القادر أبو الفحم، سجن عسقلان، كان المعتقلون قرروا بدء الإضراب عن الطعام، ونصحوه بأن لا ينضم إليهم بسبب حالته الصحيّة، لكنّه أصرّ على المشاركة، ورفض حتى مناقشة الأمر، بقوله: "لا تأخذوا كلّ الشرف.. أعطوني نصيبي منه"، ولم يرد أبدًا أن يكون في "الخندق الأخير". في اليوم الخامس للإضراب، لم يعد عبد القادر يقوى على الكلام، فتم نقله إلى المستشفى بعد تأخير متعمد من إدارة المعتقل، وهكذا كان أوّل شهداء الحركة الأسيرة في السجون.
بعد ذلك، خاض الأسرى إضرابات جماعية لتحسين حياتهم، منها إضرابات أعوام (76، و77)، وتلاها إضراب سجن نفحة عام 1980، الذي استشهد فيه راسم حلاوة وعلي الجعفري عقب إخضاعهم للتغذية القسرية، ليلتحق بهم بعد ثلاث سنوات إسحق مراغة. وكذلك إضراب سجن الجنيد في أعوام (84، 85)، وإضراب أعوام (87، 91).
اقرأ/ ي أيضًا: انتصار القيق يعرّي السلطة الفلسطينية
وفي عام 1992، خاض 11 ألف أسير أكبر إضراب في تاريخهم. وعقب اتفاقيّة أوسلو وتحديدًا عام 1995، خاضوا إضرابًا سياسيًّا للإفراج عنهم. ثم تواصلت الإضرابات في أعوام 1998 و2000 و2004، إلى أن كان آخر إضراب جماعيّ للحركة الأسيرة عام 2012.
ورقة صغيرة، تُلف كالكبسولة، كانت تحوي تفاصيل الإضراب المُخطط له، وبالطبع يتناقلها الأسرى على طريقتهم الخاصّة!
من خلال ورقة صغيرة تُلف بالنايلون، لتصبح كالكبسولة، كان الأسرى يتواصلون فيما بينهم في مختلف السجون، لتعميم فكرة الإضراب، ويتناقلونها عند النقل في البوسطات، أو من خلال الرسائل الشفوية أثناء الزيارات، أو عند تلقي العلاج في مستشف سجن الرملة، وبالطبع كان يتم انتخاب لجنة تمثّل الأسرى، تتولى اتخاذ القرارات والتفاوض مع إدارات السجون.
عبد الرازق فرّاج، الذي خاض عددًا من الإضرابات في السجون، قال إنّ الأسرى اضطروا عام 2012، لتهريب كمية من الملح في فتحات القسم وفي كبسولات صغيرة، لأن إدارة السجون سحبت كل "الملح" الذي يستخدمه الأسرى أثناء إضرابهم.
فور إعلان الإضراب، كان يتم نقل الأسرى للزنازين، واتخاذ عقوبات بحقّهم، ومصادرة أغراضهم، لإجبارهم على فكّ إضرابهم.
وفور إعلان الأسرى بدء إضرابهم، كانت إدارة السجون تسارع لنقل الأسرى فورًا لزنازين العزل، وتبدأ بالضغط النفسي وبثّ الإشاعات بينهم لفكِّ إضرابهم، لكنّ الأسرى يكونون قد اتخذوا قرارًا حاسمًا بأنّ لجنة مكوّنة من عدّة أسرى هي الجهة الوحيدة التي تبّلغهم بانتهاء الإضراب.
في 24 نيسان/إبريل 2014، بدأ نحو 120 معتقلًا فلسطينيًا إداريًا في سجون (مجدو، عوفر، والنقب)، إضرابًا مفتوحًا عن الطعام؛ احتجاجًا على اعتقالهم الإداري دون تهمة أو محاكمة. ولم يكن يخطر ببال الأسرى في حينه أن يمتد إضرابهم لـ63 يومًا، حيث نشأت ظروف موضوعية تمثلت بخطف المستوطنين الثلاثة، وتلاها حرب غزة، ما اضطر الأسرى لوقف إضرابهم، دون تحقيق الكثير من المطالب.
حاولت مصلحة السجون، كسر الإضراب بالقوة منذ البداية، وكان السجانون يقولون للمضربين: "لدينا ما يكفي لصنع أكفانكم... مطالبكم لن تتحقق".
اقرأ/ي أيضًا: 3000 ليلة.. نسوية الحركة الأسيرة
ومع بداية عام 2012، دشّن الأسرى الإضراب الفردي. فكانت البداية مع خضر عدنان حيث حاولت إدارة السجون إنهاء إضرابه بكل الطرق والأساليب من نقل، وعزل، ومصادرة حاجيّات، واللعب على وتر أنّ الإضراب يؤدي لهلاك النفس، وهو أمر مرفوض من وجهة نظر شرعيّة. وفي اليوم الـ28 للإضراب، تم نقله إلى مستشفى مدني، وتم تقييد أطرافه، وحاولت مصلحة السجون التأثير عليه لفك إضرابه من خلال السماح لعائلته بزيارته.
أسرى كثر بعد ذلك، خاضوا إضرابات فردية منهم: هناء شلبي، ثائر حلاحلة، بلال ذياب، طارق قعدان، جعفر عز الدين، سامر العيساوي، أيمن الشراونة، محمود السرسك، أكرم الريخاوي، محمد علان، محمد القيق، بلال كايد، محمد ومحمود البلبول، ومالك القاضي.
كان السجانون يقولون للمضربين: "لدينا ما يكفي لصنع أكفانكم... مطالبكم لن تتحقق"
الصحفي القيق وضعه المحقق أمام خيارين: إمّا الاعتراف بتهمّة تشكيل خلايا مقاومة، أو الذهاب للاعتقال الإداريّ، فقرر خوض الإضراب في اليوم الرابع لاعتقاله. بعد ذلك أصبح التحقيق أكثر عنفًا، فلمدة ثلاثة أيام تم شبحه وحرمانه من النوم، وتخللها الصراخ والبصاق، وهدده المحققون بالاغتصاب، وقال له السجانون إنه سينقل إلى قسم المجانين، وكانوا يتناوبون عليه بالقول: "مُتت ولّا لسّا؟".
في الزنزانة تردد عليه ضباط في محاولة لإقناعه بتناول الطعام، من خلال تذكيره بعائلته: "أمك تنتظرك، سوف ينقلونها إلى المستشفى بسببك"، لكنّ القيق أخبره أن والدته توفيت منذ أربعة أعوام. وكان يتم اقتحام الزنزانة بشكل عنيف، وتفتيشه عاريًا، ثم سحبه للتحقيق بطريقة عنيفة، هدده المحققون بحرمانه من أطفاله، وإبعاده إلى الخارج.
عقب نقله لمستشفى العفولة، حاول الأطباء والسجانون عرض الطعام عليه، وذلك لتصويره في حال تناوله. وفي إحدى المرات سمع صوتًا: "الله يحييك يا محمد القيق.. إذ كنت تسمعني حرّك رجلك"، فحرّك محمد القيق قدمه.
آخر انتصارات الأسرى الفلسطينيين، حققها الأسير مالك القاضي أصغر أسير إداريّ، وكذلك الأشقّاء: محمد ومحمود البلبول الذين ينتظرون موعد الإفراج عنهم، بعد أن قرعوا جدران أمعائهم، وانتزعوا حرّيتهم، وسبقهم الأسير بلال كايد.
اقرأ/ي أيضًا: