04-ديسمبر-2018

"أدركت انه لا يعقل إنّا نكون شباب فلسطين بنعيش في الغربة، في الوقت اللي اليهود بيجوا من الدنيا للعيش في فلسطين". قال صالح خضر أبو مرتضى عن اللحظة التي اتخذ فيها قراره بالالتحاق بصفوف الثورة الفلسطينية، عام 1967 عندما كان يعيش في الكويت. من هُنا بدأت حكاية الرجل الذي ولد عام 1947 في بيت دجن، ودرس فيها حتى الصف السادس الابتدائي، ثم هاجر منها إلى الكويت للعمل، ومن هناك تقدّم أول خطوة في صفوف الثورة.

يروي أبو مرتضى أنّه بدأ أولاً بقراءة "الكراريس" والكتب التي وُزّعت عليهم لتوعيتهم وتثقيفهم بالقضية الفلسطينية، ثم توجه من الكويت إلى سوريا حيث معسكر "الهامة"، ومنها إلى دمشق، ثم تدرّب في معسكر اللاذقية، ليبدأ بعد ذلك مشواره من معسكرٍ لحركة فتح في الأغوار، في الشونة الشمالية، ثم يلتحق بالقطاع الغربي عام 1968.

   صالح أبو مرتضى من بيت دجن، ومحمود شريتح من المزرعة الغربية، وفهيم العملة من قبلان، انطلقوا من السلط إلى مشاريق نابلس عام 1970 لتنفيذ عملية كبيرة  

يقول: "لمّا حدثت معركة الكرامة كنّا في إحدى الدورات التدريبية في اللاذقية، وبعد عودتي للأردن نفذت عدة مهمات فدائية ضد العدو الصهيوني ضمن قوات العاصفة (حركة فتح) آخرها تلك العملية التي اعتقلت فيها".

اقرأ/ي أيضًا: فيديو | الذاكرة المصوّرة للعبوات الناسفة

يشرح أبو مرتضى تفاصيل العملية، مبينًا أنّ "الدورية" انطلقت من "إحدى قواعد العمل الفدائي المتقدّم في السلط"، وهي المدينة الأردنية التي احتوت قواعد متقدّمة لقوات "العاصفة"، من أبرز رجالها في تلك الفترة الرائد السابق في الجيش الأردني الشهيد فايز محمود حمدان، وهو من صور باهر في القدس، والأمير الكويتي الراحل فهد الأحمد الجابر الصباح.

ضمّت "الدورية" إلى جانب أبو مرتضى، محمود شريتح من المزرعة الغربية، وفهيم العملة من قبلان، وقد انطلقت نحو هدفها عندما دقّت الساعة السابعة من مساء يوم 8 نيسان/إبريل 1970، يحمل أفرادها تعليماتٍ واضحة: الوصول للهدف، أو الاشتباك حتى الشهادة.

"بوستر" عن صالح أبو مرتضى، بعد عودته من 32 سنة إبعاد
"بوستر" لفهيم عملة من قبلان، أحد منفذي العملية

كانت الرقابة العسكرية الأمنية الإسرائيلية مشددة جدًا خلال بدايات عام 1970، تحديدًا عبر محور السلط - دامية - مشاريق نابلس، التي فكّك الاحتلال على أطرافها العديد من "دوريات" فتح وقواعدها المتقدمة، وقتل عددًا من الفدائيين، واعتقل آخرين في فترات سابقة.

في تلك الليلة، عَبَر أبو مرتضى باتجاه "البلاد"، عبورًا عكسيًا لذلك الذي كان في عام 1965 باتجاه الكويت. في هذه المرة كان الهدف مشاريق نابلس وغورها، حيث بيت دجن وعقربا. 

يقول: "عبرنا نهر الأردن تقريبًا عند الساعة السابعة مساءً، بعد ساعتين من المشي، واجتزنا حقل الألغام، وفتحنا ثغرة في الشيك وعبرنا من شرق فصايل نحو الغور، سرنا غربًا باتجاه مشاريق نابلس للبحث عن أي هدف للعدو، للاشتباك معه ثم العودة للشرق".

سارت "الدورية" مسافة 10 كم غرب شارع فصايل، "كانت الدنيا ليل وصعب نحدد بالضبط احنا وين، لكن هذا كان شيء تقريبي منّا، بنعتقد إنه كنّا بالقرب من إحدى قرى نابلس الشرقية  دوما - مجدل بني فاضل- عقربا، لأنه المسار كان لازم يكون قريب من الواد الأحمر، ومن هناك باتجاه قرى جنوب شرق نابلس"، قال أبو مرتضى.

   "كانت التعليمات واضحة: الوصول للهدف، أو الاشتباك حتى الشهادة"  

كانت الدورية بقيادة أبو مرتضى واسمه الحركي "أبو حمزة". يُبين أنه ورفيقيه لم يلتقوا أحدًا طوال الطريق، "سرنا بلا دليل معتمدين على أنفسنا، حيث لنا معرفة عامة بجغرافية البلاد كوننا من مشاريق نابلس ونعرف شيئًا عن الأغوار بشكل عام. وفي القاعدة العسكرية تم تقديم معلومات عن الدوريات التي عبرت سابقًا وخاضت اشتباكات في منطقة الغور ومشاريق نابلس".

اقرأ/ي أيضًا: استعادة من الأرشيف: فعل "الجيش البريطاني السافل" في حلحول!

بعد 6 ساعات متواصلة من المشي، تحديدًا عند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، أُصيب أحد أفراد "الدورية" بالتعب ولم يعد قادرًا على المشي. اقترح أبو مرتضى والمقاتل الآخر التقدّم دونه ثم العودة له بعد تنفيذ المهمة، لكنّه رفض ذلك وأصر على بقائهما معه. يصف أبو مرتضى هذا القرار بأنه "أول الأخطاء"، موضحًا أنّ "الدورية حينها كانت على مقربة من سفوح الجبال، ومن السهل الابتعاد عن المناطق القريبة من الغور، وبالتالي كانت هناك فرصة للابتعاد عن مسار البحث والتفتيش الذي سيبدأ به جيش الاحتلال صباحًا، لأن آثار الخطوات على الرمل ستكون واضحة مع طلوع الفجر".

ويضيف، "كنّا نسمع أجراس الغنم ما أوحى لنا بأننا قريبين من قرية دوما حسب تقديرنا، لكن ما كنت متأكد. كنا متعمدين على أنفسنا بدون دليل وكانت مهمة مجموعتنا مفتوحة في الاشتباك مع العدو وليس لنا هدف محدد. نمنا ليلتها بعد الاستحكام في الكمين، ومن التعب صحينا ع طلوع الشمس".

بقيت "الدورية" في الكمين دون حركةٍ بانتظار اللحظة المناسبة للتحرّك، خوفًا من الانكشاف إذا تحرّكت نهارًا، فالحركة في النهار ستكون مكشوفة بسهولة. لكن بحلول الساعة التاسعة صباحًا كانت مروحيات الاحتلال تبحث عن أفراد "الدورية" في السهل الممتد أمامهم، وباتجاه الشمال حيث الواد الأحمر والوديان الفرعية له. 

"كانت تبحث في تلك المناطق لأنها الممر الطبيعي لأي دورية تتحرك باتجاه القرى الشرقية. صرنا نسمع صوت الطائرات قريب منا، وكانت تنادي عبر مكبرات الصوت لنسلّم أنفسنا"، قال أبو مرتضى. 

بدأت المروحيات تُطلق النار عشوائيًا من السماء، والجنود المشاة يُطلقون النار من الوادي، بعد أن حدد قصاصو الأثر المشاة أن أفراد "الدورية" قريبون منهم، ثم بدأت الطائرات تُطلق القنابل الدخانية. يصف أبو مرتضى ذلك بأنه "أجواء معركة من غير ما يحددوا بالضبط في أي مغارة احنا".

بقيت "الدورية" في الكمين دون حركة، بينما أفرادها يُشاهدون التعزيزات تُحشد في المنطقة. عند الساعة الحادية عشرة تقريبًا بدأ الاشتباك. "انتظرنا لحظة اقتراب الجنود، وأطلقنا النار عشوائيًا باتجاههم. صار إطلاق نار متبادل، نحن ثلاثة رجال معنا أسلحة بسيطة، وهم جيش وطيارة وكل الأسلحة". 

   اشتبكت "الدورية" مع جيش الاحتلال فأُصيب اثنان منها، حاولوا الانسحاب لكن تم اعتقالهم واقتيادهم للتحقيق  

أُصيب فهيم العملة في قدمه أولاً، ثم أُصيب أبو مرتضى في قدمه أيضًا، فحاول الجميع الزحف باتجاه أصوات أجراس الغنم، بينما طلب جيش الاحتلال منهم تسليم أنفسهم "لإسعافهم ونقلهم بالطائرة لتلقي العلاج".

فشِلت محاولة الزحف لأن المنطقة مطوّقة بالكامل، فتم اعتقال الثلاثة ونقل العملة وأبو مرتضى في الطائرة بسبب إصابتهما، بينما تم اقتياد محمود شريتح مشيًا على الأقدام مع الجنود إلى معسكرٍ لجيش الاحتلال في "سد حريز" وسط الواد الأحمر.

اقرأ/ي أيضًا: إرث المعركة.. فدائيو الواد الأحمر

يعتقد أبو مرتضى أنه والعملة نُقلا إلى رام الله أو أريحا، وهناك بدأ التحقيق معهما دون علاج، في محاولة لاستغلال إصابتهما في الضغط عليهما للاعتراف، "لكن لم يكن هناك ما نعترف به لأننا لم نقم بشيء أثناء العملية"، قال أبو مرتضى. وبيّن أن المحققين عادوا في اليوم التالي لابتزازهم طالبين منهم الاعتراف مقابل العلاج. 

بعد شهرٍ من الاعتقال والتحقيق، نُقل الأسيران إلى سجن نابلس. في سنة 1971، حُكِم على الأسرى الثلاثة بالسجن المؤبد، بعد اتهامهم بقتل جنودٍ أثناء الاشتباك.

يقول أبو مرتضى إن الحكم ثم السجن لم يحملا أي مفاجأة لهم، فالحكم كان متوقّعًا "ولذلك تلقّاه الجميع ببرودة أعصاب، ولم يندموا بسببه". والسجن -على قسوته- إلا أنهم كانوا قد قرأوا عنه واطّلعوا على تجارب الأسرى في سجون الاحتلال؛ بما يكفي للتعرف على ما يحدث فيه، كما قال.

أودِع أبو مرتضى في قسم 3 بمعتقل عسقلان، "وكان الاستقبال الأساسي بحلق الرأس والوجه، ورشونا بمادة مبيدة للحشرات" وفق قوله، مبينًا أنه لا ينسى رفاقًا مقربين في معتقل عسقلان ذكر منهم أحمد أبو هدبة من عقربا، ومصباح المصري من نابلس.

ويذكر أبو مرتضى أيضًا، الشهيد علي الجعفري، وهو الذي استُشهد في السجن -خلال إضرابٍ عن الطعام- بعد اعتقاله في معركة واد القلط مع الأسير جميل أبو صقر، ثم حُكِمَ عليه بالسجن المؤبد على خلفية قتل الجنرال تسفي عوفر. 

   صالح أبو مرتضى: السجن تجربة فريدة تعلمنا فيه وتثقفنا وكان كل وقتنا حياة وفائدة  

ويصف أبو مرتضى السجن بأنه "مدرسة، وتجربة فريدة مميزة، تعلمنا فيه وتثقفنا وكان كل وقتنا حياة وفائدة"، مضيفًا أنه لا يزال يحمل في ذاكرته "أشياء كثيرة صعب ينساها، ومنها تشكّل الجماعة الإسلامية".

تحرّر أبو مرتضى من سجون الاحتلال بموجب صفقة تبادل أُبرمت عام 1985 بين الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، وإسرائيل، مبينًا أن هذه الصفقة كانت الثانية التي استُثني منها أسرى "دورياتٍ" ثوريةٍ بعد عام 1967، ما تسبب بالصدمة والإحباط لهم.

تضمّنت الصفقة أسماء 20 أسيرًا سيتم إبعادهم، لكن أبو مرتضى لم يكن منهم، فخرج إلى مسقط رأسه بيت دجن، ثم بعد شهرين فقط فوجِئ بقرار إبعاده مع 12 أسيرًا محررًا إلى الأردن في اليوم التالي لتبليغهم. يُعلل أبو مرتضى ما حدث بضغوطات قام بها مستوطنون رفضًا لبقائهم في الضفة بعد الإفراج عنهم في الصفقة.

  تحرّر صالح أبو مرتضى بموجب صفقة التبادل عام 1985، وبعد شهرين أبعده الاحتلال إلى الأردن استجابة لضغوطات مستوطنين  

"أنا عشت فترة جميلة من حياتي في العمل الفدائي ومش ندمان عليها، قدمت واجبي تجاه البلد. أمضيت 15 سنة من عمري، لكن نسيته وما عاد يمثّل شيء في حياتي"، قال أبو مرتضى ذلك بعد أن عاد إلى بيت دجن زائرًا، وأعرب عن أمله بانتهاء فصول غربته وبقية المبعدين إلى الأبد.

على "جسر الكرامة" حيث العبور من الأردن إلى الأراضي المحتلة، احتجزت سلطات الاحتلال وثائق أبو مرتضى، فظنّ أن محاولته للدخول ستنتهي بالفشل. "لكن لمّا عبرنا الجسر كانت الصدمة لمّا شفت أهلي والناس هناك في استقبالي. كنت كثير فرحان ومش مصدق إني بدي أشوف كل هالناس الي كانوا في استقبالي" وفق قوله.

في الطريق من أريحا إلى بيت دجن، مرّ أبو مرتضى على طريق فصايل، "بدأت المشاهد تعود إلي، وأتذكر أيام الدورية" كما قال.

صالح أبو مرتضى

مراجع خاصّة: مقابلة شفوية أجراها الباحث حمزة أسامة العقرباوي.


اقرأ/ي أيضًا: 

ليلة في حصار جامعة النجاح

بروفايل | وليد دقة.. "رجل الزمن الموازي"

معركة جنين 48: العراقيون يفتدون فلسطين