يبدو أن الأجسام السياسية والحزبية والحقوقية والنقابية والاجتماعية الفلسطينية قد فشلت في فهم ماهية التحركات الاحتجاجية تجاه قانون الضمان الاجتماعي حين وصف بعضُها الاحتجاج على القانون بتحركاتٍ يقودها أرباب العمل، والمشاركين فيها من العمال يحركهم أرباب العمل، ولم يروا فيها يقظة حقوقية مدنية، نضجت بعد ربع قرنٍ من نشوء السلطة الوطنية الفلسطينية، حيث أصبحت موازنة السلطة تعتمد بصورةٍ شبه تامةٍ على دافع الضرائب الفلسطيني وليس على المساعدات الأجنبية كما كان حالها في سنواتها الأولى.
ورغم أن أصول عدد من مسؤولي النقابات والأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية من خلفيات يسارية، إلا أنهم لم يلحظوا أن حركات التغيير الاجتماعي تنطلق في العالم عادةً من الطبقة الوسطى، وبالتالي من الطبيعي أن يعبر حراك الضمان عن مصالح أبناء هذه الطبقة -من ذوي الدخل المريح- لوعيهم أن حصصًا جديدة من رواتبهم ستقتطع دون أن يكون ضمان حقيقي لتوفير حماية اجتماعية لهم عند شيخوختهم، فما يحكمهم هو الحسابات والثقة في إدارة الضمان، وفي كلا الحالتين النتيجة سلبية، لذا آثروا القيام بالحراك دفاعًا عن حقوقهم المدنية.
ما يحكم المحتجين على قانون الضمان الاجتماعي هو الحسابات والثقة في إدارة الضمان، وفي كلا الحالتين النتيجة سلبية، لذا آثروا القيام بالحراك دفاعًا عن حقوقهم المدنية
ممثلوا النقابات والأحزاب السياسية الفلسطينية تعاطوا مع قانون الضمان الاجتماعي بشكله الحقوقي أكثر من مضمونه، ولم يلتقطوا هذه اليقظة المدنية، فبعضهم يعتقد أنه حارس الحقوق الاجتماعية؛ رغم حالة الترهل التي سادت أحزابهم السياسية ونقاباتهم مع غياب تقاليد ديمقراطية تحكم عمل مؤسساتهم. كما أن جزءًا ليس يسيرًا منهم ينتمون إلى هياكل سياسية تعيش على مخصصاتٍ ماليةٍ مصدرها الأساسي ضرائب مفترشي الأرض من المحتجين على قانون الضمان الاجتماعي، وبالتالي لم تلتقط حاستهم اليقظة التي جاءت على شكل احتجاجاتٍ رافضةٍ للقانون، ورافضةٍ للآلية الحكومية المقترحة في اقتطاع رواتبهم لصالح صندوق الضمان الاجتماعي.
اقرأ/ي أيضًا: فيديو | الحراك: جهات دولية تقف خلف قانون الضمان
الجهات المذكورة تعاطت مع ما يجري بنفس الطريقة التي تتعاطى بها الحكومات العربية مع أي تحركات اجتماعية أو سياسية مضادة لسياستها. فبعضهم وصفها بتحركات عمال يدفعهم أرباب العمل إلى الشارع، وبعضهم تحدث عن جهلٍ حقوقيٍ للمحتجين، وتناسوا أن سياسات السلطة وحكوماتها المتتابعة على مدار ربع قرنٍ تشكل حالة من تزاوج السياسة مع رأس المال، ذاب بموجبه غالبية أعضاء الطبقة الوسطى، وتحولوا إلى طبقةٍ فقيرةٍ يضمرون في داخلهم احتقانًا شديدًا تجاه طبقة الحكم الجديدة.
لا ينتبه كثيرون في السوق أن الطبقة المتوسطة تتلاشي، فالشرائح التي كانت في بداية عهد السلطة تعمل مثلاً في مجال بناء العقارات والتعهدات العامة وتعتاش من عملها، تلاشت لصالح عدد محدود من الشركات العملاقة التي ابتلعت السوق، والحال ذاته ينطبق على آلاف المزارعين الذين كانوا يعتاشون من مزارع الدواجن، واختفوا فجأة من السوق بعد أن لفظتهم شركات كبيرة خارج سياق المعادلة، وهذا ترافق بالتأكيد مع احتكاراتٍ بلعت السوق كقطاع الاتصالات والخدمات والأمن والتجارة، وبذلك تركز المال في يد فئة قليلة والشقاء نصيب فئات كثيرة.
ممثلوا النقابات والأحزاب تعاطوا مع الاحتجاجات على قانون الضمان بنفس الطريقة التي تتعاطى بها الحكومات العربية مع أي تحركات مضادة لسياستها
العاملون في هذه الحقول يعون أن الحكام أصبحوا تجارًا ، والتجار أصبحوا حكامًا، وطوَّع كلاهما القانون والسلطة لحماية الطبقة الجديدة وليس لحماية المواطنين، فيما تحول غالبية أبناء الطبقة الوسطى إلى متعاطين للأرجيلة في المقاهي، وحتى في هذه منفعة جمركية لطبقة الحكم التي ينعم أفرادها في العسل.
إن فك فتيل الأزمة المتنامية ممكنٌ فقط بسياساتٍ فوريةٍ تتخذها الحكومة الفسطينية لتحقيق عدالة اجتماعية حقيقية، وإحياء مبدأ الديمقراطية في الحكم. فما زالت أمام الحكومة فرصةٌ متاحةٌ لتقليل الفجوات الطبقية الآخذة في الاتساع؛ والتي سببت اليقظة الحقوقية المدنية التي لم ترتق حتى هذه اللحظة إلى يقظةٍ حقوقيةٍ سياسية، فالحركة الحقوقية السياسية تتطلب أهدافًا أخرى وتحالفاتٍ جديدة، وهذا ما لم تتضح معالمه بعد.
علينا أن نتذكر أن الانتفاضة الفلسطينية الأولى -التي يصادف غدًا (السبت) ذكرى انطلاقتها في العام 1987- كانت أسباب اندلاعها اقتصادية بحتة وليست سياسية، واجهتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي بسوء إدارة جعلتها بأسرع مما توقعنا وطنية، وفي هذا القول نُصحًا لا تحريضًا، أتمنى أن تأخذه الحكومة بعين الاعتبار. فالحراك في وقفته الأخيرة في رام الله أحيا في النفوس قيمًا تلاشت خلال ربع القرن الأخير، فمن منا كان يعتقد أن مئات الشبيبة مستعدون لالتحاف الأرض دفاعًا عن حقٍ مدنيٍ، وغالبيتهم كما لمست تأتي السياسة في آخر أولوياتهم، فهم ليسوا نشطاء سياسيين.
اقرأ/ي أيضًا:
قانون الضمان.. السلطة والفشل في اختبار الدولة