10-أبريل-2017

وسط كثبانٍ رمليةٍ بيضاءٍ هادئةٍ محاطةٍ بأشجار نخيلٍ وثكناتٍ عسكريةٍ للمقاومة، أقيمت على أراضي مستوطناتٍ سابقًا جنوب قطاع غزة، يمكن سماع جلبة شجارٍ تستمر أحيانًا لساعات الليل داخل مبنىَ شبه مُضلّع.

ذلك الشجار كان مُصطنعًا من مُمثلين بعضهم يجسدون أدوار شخصياتٍ فلسطينية وآخرين تقمصوا شخصيات مستوطنين، في مبنىً غني بالأقواس والحجارة الطينية الحمراء، ومقاهٍ ومتاجر ومنازل وطرقات تُلهم زوارها للوهلة الأولى أنهم في أحد أزقة البلدة القديمة في القدس.

وعلى بعد عشرات الأمتار من الشجار، كان ممثلون بزي جنودٍ إسرائيليين يمنعون بفُوهات بنادقهم مرور نساءٍ وأطفالٍ تجاه أحد "المواقع المقدسة لليهود"، استعدادًا لإنتاج مسلسل تلفزيوني سيعرض في حزيران/يونيو المقبل.

في غزة يستلهم مسلسلٌ تلفزيونيٌ أجواء القدس العتيقة ويجد إقبالاً كبيرًا من شبانٍ وشاباتٍ لمشاهدة الموقع

وخلف رافعة تصوير مشاهد المسلسل، نجح عشراتٌ من الشابات والشبان الفضوليين في عمر العشرينات في الوصول للمدينة المصطنعة، جُلّهم لم تُتح أمامهم فرصة لزيارة المدينة المقدسة الحقيقية.

اقرأ/ي أيضًا: مستثمرون في أزمة كهرباء غزة

زيارة هؤلاء الشبان إلى القدس يمكن أن تتحقق في حالتين فقط، إما أن ينتظروا حتى يبلغوا سن الـ 60، حينها يمكنهم الحصول على إذن مدته ست ساعاتٍ فقط لأداء الجمعة في الأقصى، أو أن يحصلوا على تحويلةٍ علاجيةٍ شرط أن يكون مرضهم يُشكل خطرًا حقيقيًا على حياتهم، ويتوجب نقله إلى أحد المستشفيات العربية هناك.

وحتى إن فاز هؤلاء الشبان بتصريح دخول إلى القدس؛ فهم مجبرون على ركوب حافلاتٍ جماعيةٍ ذات نوافذ مغلقةٍ ومغطاةٍ بلاصق معتم.

أما كبار السن من سكان غزة الذين كان يُسمح لـ200 منهم فقط بالصلاة أسبوعيًا في المسجد الأقصى، أو أهالي الأسرى، فيعتقدون أن تلك الحافلات ذات النوافذ المعتمة تهدف إلى عدم رؤيتهم للمعالم الجغرافية للطريق خشية إثارة عواطفهم وتذكر زمن تهجيرهم من أراضيهم في النكبة عام 1948.

وتمثل مدينة القدس التي شهدت أول شرارةٍ للهجمات الجارية منذ 18 شهرًا، أساسًا للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، منذ إقامة دولة الاحتلال الإسرائيلي قبل سبعة عقود تقريبًا، بسبب المزاعم الإسرائيلية بقدسية المدينة في الدين اليهودي، وتنفيذ الاحتلال حملاتٍ شرسةٍ من قمعٍ تهويدٍ لكل ما يتعلق بالتراث والعمارة والتاريخ العربي والإسلامي، ولأبناء المدينة الأصليين أيضًا.

وعودة إلى أولئك الشبان الفضوليين في موقع التصوير، التقينا محمد قنديل (24 عامًا) فقال لنا: "ذهبت إلى إحدى زوايا المدينة وبكيت بصمت.. هل تعرف ماذا يعني أن يذرف الرجل دموعه بصمت؟ تذكرت كل شيء عن القدس القديمة، أناسها وشوارعها الضيقة وأقواسها وحتى باعة الكعك المغلف بالسمسم".

الشاب قنديل الذي لم يسبق أن خرج من غزة أبدًا، طلب من الجندي الممثل تسديد ضربات على وجهه بنموذج سلاح  M-1، وحينما سألته عن ذلك قال إنه يود "تجربة آلام المقدسيين التي يعانونها يوميًا من الشرطة الإسرائيلية التي ترهب أولئك السكان".

أما زهدي أبو سعيد (25 عامًا) فقال إن نموذج هذه المدينة ألهمه بمشاعر روحانية، تمامًا كما يحدث لحجاج بيت الله الحرام.

سلطات الاحتلال تنقل كبار السن من غزة إلى القدس عبر حافلاتٍ نوافذها معتمة فلا يستطيعون رؤية الطريق للمدينة

ويستدرك، "لكن هناك فرقٌ كبيرٌ بين مدينةٍ مقدسة حرة كمكة المكرمة، وأخرى أسيرة بين قوة عسكرية تحتل كل شيء في مدينتك، ويحاول أفرادها سرقة كل شيء في المدينة حتى الأسماء، ويمنعونك من أداء الشعائر الدينية".

أسفل لافتةٍ كتب عليها: "طريق الملاك"، تقول روان سهيل إن هذا المكان يُفجر الأحاسيس الوطنية نحو مدينةٍ ستكون يومًا عاصمة "إما بجهودٍ دبلوماسيةٍ أو صراعٍ مسلح".

لكن روان ترفض أن تزور القدس إلا بعد تحريرها من الاحتلال. "لن أذهب إلى جزءٍ من وطني يقع تحت احتلالٍ يعتقل ويقتل ويسرق ويجبر السكان على هدم منازلهم".

إنصاف حبيب (23 عامًا) تقول إنها لم ترى القدس مطلقًا. "كتبت صديقتي مرة إسمي وصوّرته بهاتفها، ويظهر في الخلفية صورة لقبة الصخرة.. كان ذلك شعورًا يدعوك للبكاء لأنه ليس بمقدورنا الذهاب إلى هناك إلا أسماءنا".

الممثل تامر السحلوب (27 عامًا) الذي كان يؤدي دور الجندي، يؤكد أنه لا يعرف شيئًا عن القدس سوى ما يراه في أخبار التلفزيون. "أتوق للذهاب إلى هناك ولن أفكر في أي عملٍ انتقامي، سأمشي في الأزقة وأتحسس الجدران الخشنة وأخبر أهلها أنني من غزة.. أنا من الجزء الآخر من البلاد".

ويقول تامر وهو مدرسٌ أيضًا، "الوضع في غزة والقدس يشبه حال سكان كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، فهم ممنوعون من الالتقاء ببعضهم ولم يزوروا بعضهم منذ سنوات طويلة".

في شوارع مدينة غزة، يمكن للمارة الانتباه إلى لافتة طريقٍ كتب عليها (القدس 81 كيلومتر)، على الرغم من أنه لا يمكن لأي سيارة من غزة الذهاب إلى هناك، ليبقى مجرد إيحاءٍ عاطفيٍ للتذكير بأنها ستكون عاصمةً مستقبلية للدولة الفلسطينية الدائمة التأجيل.

اقرأ/ي أيضًا: 

السفّاحون: هكذا نفذّنا مجزرة دير ياسين

الطفلة نوران.. اختطفها عملاء "الشاباك" وباعوها

في غزة.. آباء يدفعون أطفالهم للسرقة