في إحدى ليالي شتاء عام 1995، داهمت قوات كبيرة من جنود الاحتلال والقوات الخاصة حيّنا "الضاحية" شرق نابلس، وشرعوا بإطلاق النار في الهواء، وإلقاء قنابل الصوت في الطرقات والزقاق. كان عدد الجنود أكثر من أن يُحصى، فقد جاؤوا من الجهات الأربع كجراد منتشر، منهم من جاء بصخب، ومنهم من جاء قبلهم بحذر وتسلل، جاؤوا من فوقنا ومن أسفل منّا.. برًّا وجوًّا، أقلّتهم المركبات وطائرات الهليكوبتر التي ما زلت أتذكّر هدير صوتها ومشهد هبوطها في ساحة قريبة من منزلنا، في حين انهمك جنود آخرون بنصب الخيام في ساحة أخرى.
للوهلة الأولى ظنّ الناس أنّ الأمر مجرّد تدريب ميداني أو مناورة حيّة سرعان ما تنتهي، كيف لا وقد كان الانسحاب الإسرائيلي من مدينة نابلس مسألة أسابيع ليس أكثر.
في صبيحة اليوم التالي تبدد الغموض حين ذكرت الإذاعة العبرية أن العملية استهدفت تصفية المهندس يحيى عياش الذي أفلت بأعجوبة
بدأ الجنود وعبر مكبرات الصوت بالطلب من سكان الحي العلوي الخروج من منازلهم وتركها مفتوحة الأبواب، سُمح لهم بأخذ الأموال والذهب فقط، "كانت لهجة عربيّة ركيكة مكسرة".. لا زلت أتذكر والدي وهو يجادل الضابط معترضًا على قراره رافضًا له، في هذه الأثناء أشهر جنود آخرون سلاحهم في وجهه، وطلبوا منه بصوت مرتفع مغادرة المكان. لم يكن أمامنا وبقية المواطنين خيار آخر، خرجنا في أفواج جماعية رجالًا ونساء أطفالًا وشيوخًا في مشهد "نكبوي" مُصغّر.
قام الجنود بتجميع الذكور البالغين في مسجد الحاج أمين أبو زنط، في حين تفرّقت النسوة والأطفال على المنازل البعيدة عن المنطقة المستهدفة، أمّا أنا فتوجهت مع والدتي وشقيقتي الصغيرة لأحد هذه المنازل. كان الخوف والترقب سيّد الموقف، فلأول مرة تتعرض منطقتنا لهذا النوع من "الاجتياح"، لم تكن هذه الكلمة موجودة في ذلك الوقت، ولم يكُن هناك كلمة مناسبة للتعبير عن المشهد.
كنت صغيرًا بالتأكيد، ولكنّي لازلت أتذكر صيحات الجنود عبر مكبرات الصوت.. أصوات الأعيرة النارية المتقطعة.. قنابل الصوت وتفجير الأبواب.. نباح كلابهم المدربة المسعورة.. فيما حوّلت قنابل الإنارة الليل لنهار.. كانت ساعات صعبة امتدت من بعد العشاء حتى فجر اليوم التالي، وقد انتهت العملية بتفتيش عشرات المنازل في دائرة معيّنة محددة، كان منزلنا من بينها بالتأكيد، إضافة لاعتقال عدد من الشبان، والتحقيق الميداني مع عشرات آخرين.
بعد انقشاع غبار المعركة وبعد أن وضعت الحرب أوزارها عدنا لمنزلنا، كان زجاجه مُكسّرًا، وأثاثه مُبعثرًا مقلوبًا رأسًا على عقب، كما بدت آثار قنابل الصوت ظاهرة على البلاط كبصمة سوداء دّلت على مرور الاحتلال من هنا، فيما انشغل الأطفال بجمع الطلقات الفارغة وشظايا القنابل الصوتية والإنارة، بدأت العملية وانتهت دون أن نعرف أسبابها ودوافعها.
في صبيحة اليوم التالي بدأ الغموض يتبدد حين ذكرت الإذاعة العبرية أن العملية استهدفت تصفية المهندس يحيى عياش الذي استطاع الإفلات بأعجوبة من قبضة جنود الاحتلال، كان الاسم مألوفًا للجميع، كيف لا وهو من ردّ الكرامة لدماء سالت في محراب الخليل.
لازلت أتذكر القصص والحكايا التي نسج الناس فصولها عن طريقة مغادرة عياش من المنطقة، بعضهم قال إنّه تمكن من الانسحاب متخفيًا بزيِّ امرأة عجوز، في حين ذكر آخرون أنهم شاهدوا قبل بدء الاجتياح شابًّا يرتدي زيّ دهّان يضع على رأسه قبعة ويحمل سُلّمًا، بينما رجّح فريق ثالث عدم وجوده في المنطقة أصلًا.
تحدّى عيّاش الظروف رغم صعوبتها، ولم يستسلم للواقع، وفرض معادلته الخاصة، آمن بفكرة المقاومة وفلسفتها، وتشرّب معانيها وضحّى من أجلها
تحدّى عيّاش الظروف رغم صعوبتها، ولم يستسلم للواقع، وفرض معادلته الخاصة، آمن بفكرة المقاومة وفلسفتها، وتشرّب معانيها وضحّى من أجلها. امتاز بصدق نيّته وإخلاصه وبساطته، إضافة لهدوئه الذي كان يخفي خلفه إعصارًا، ورياحًا عاتية. كان قليل الكلام، كثير الفعل، كان يدفع من ماله الخاص ولم يكن ينتظر المقابل. استطاع الإفلات من قبضة "الشاباك" والجيش عدة مرات، وبقي متواريًا عن الأنظار أكثر من ثلاث سنوات، في واحدة من أكبر عمليات المطاردة التي نفذها الاحتلال خلال تاريخه.
اغتيال المهندس
في الخامس من كانون الثاني/ يناير عام 1996 تمكنت المخابرات الإسرائيلية بعد جهود مضنية وأعمال استخبارية متواصلة، من الوصول إلى المهندس واغتياله في أحد منازل قطاع غزة بواسطة جهاز نقال مفخخ مررته إليه عبر أحد عملائها.
في اليوم التالي خرجت غزة عن أولها في جنازة ضخمة مهيبة لم يشهدها القطاع طوال تاريخه، كان جثمان العيّاش داخل تابوت خشبي تتقاذفه الأمواج البشرية، ويتزاحم حوله الآلاف طمعًا بلمسه، كما بدا وجهه مشطورًا مخيّطًا مائلاً للابتسامة، أمّا والدته فقدت بدت به بعد أن ربط الله على قلبها، كانت تقصه مرة عن جنب وأخرى من بعيد، فخورة محتسبة راضية.
في أعقاب عملية الاغتيال نظّمت حماس عدة مهرجانات تأبينية للمهندس امتدت من الخليل جنوبًا حتى جنين شمالًا، وفي نابلس أقامت الحركة مهرجانًا تأبينيًا بتاريخ 11/1/1996 في ساحة المجمع الشرقي للتكسيات. كُنت أحد الأشبال المشاركين في الحفل، حملت راية خضراء وارتديت قميصًا أبيضًا مطبوع عليه صورة لعياش وهو يحمل سلاح "الجليلا" الأسود، كان مهرجانًا ضخمًا زاد عدد المشاركين فيه عن 80 ألفًا، هتفوا بالثأر والانتقام.
اقرأ/ي أيضًا: