06-نوفمبر-2016

كان أحد زملائي في المدرسة حين كُنّا صبيانًا بالغ همِّهم أن يغيب أستاذ الرياضة. كنّا أبناء صفّ واحد في إحدى مدارس مدينة جنين التي كنت أرتادها قادمًا من ريف غير بعيد، قبل أن أُضطّر لتركها مع وصول زخم الانتفاضة الثانية لمدينة جنين، متأخّرًا.

كان في نظر كثيرين فتى عاديًّا، عالقًا في الظلّ؛ منسيًّا بين المتفوّقين في الدراسة والبارعين في المشاكسة

عاقبتْ "إسرائيل" المدينة وريفها الشرقيّ جماعيًّا، وأغلقت الطريق الرئيسة بينهما، فصارت الدقائق العشر الفاصلة بينهما خمسًا وأربعين، أي أكثر من كافية للوصول إلى مدينة نابلس المجاورة في الظروف الطبيعية.
آنذاك، تركتُ "فارس عناد الزبن" خلفي على قيد هذه الحياة، ثمّ غاب في أخرى؛ هكذا نحبّ أن نُحصي من يرحلون على طريقته.

كان فارس في نظر كثيرين فتى عاديًّا، في كل شيء؛ لا يجد المرء فيه ما يستدعي التوقّف. بين أبناء صفّي، كان عالقًا في الظلّ؛ منسيًّا بين المتفوّقين في الدراسة والبارعين في المشاكسة، وبالكاد خُدشت عاديّته تلك بخصيصته البارزة الوحيدة؛ عينيه الضعيفتين، اللتين كانتا تُسرفان أحيانًا في الرمش، وتُعانيان على فترات احمرارًا وهطولًا مُزمِنيْن. كان بصر فارس أقلَّ جودة من المُعتاد، أو هكذا هُيِّئ لنا وقتها. حتى تسريحة شعره كانت بسيطة وكلاسيكيّة، بريئة من تقليعات المراهقين، فكانت محض ما ينتج من حرث المشط تِلامه إلى الخلف، بدءًا بناصية الرأس وانتهاءً ببؤرة دوّامة الشعر في مؤخرّته.

كان قويّ القلب وحارسًا لا يهاب..  أليس من الممكن لحارس مرمى كرة القدم أن ينزع بفطرته لحراسة حيّه ومدينته ووطنه؟!

لم أكن صديقًا مُقرّبًا لفارس، ولكنّي أذكر لين عريكته وطيبة قلبه. لم يكن الفتى يهوى التنمّر على أحدٍ من زملائه، ولا أذكر له موقفًا واحدًا تجاسر فيه على الظُلم، بل على العكس، أذكره مظلومًا حين كان يتعرّض لمُضايقات أرباب السخافة في الصفّ، تارةً بالسُخريّة من رفيف عينيه، وتارةً بتحوير اسم شهرته.

كان فارس يحب كرة القدم، مرهونًا بعاديّته من جديد؛ فالعاديّ أن تحب اللعبة في عُرف الصبية. وحين تعارضت العاديّة مع الانزواء في الظل، وهو أمرٌ نادر الحدوث، اختار فارس الانحياز لظلّه الأثير، فرضي بالمركز الذي يزهد به الصبية عادة: حراسة المرمى. خطر لي أن أختلق قصة كاملة، أدّعي فيها أن اختيار فارس لمركز حراسة المرمى كان مدروسًا، وأنّه رام بذلك تحدّي نفسه وبصره منقوص الكمال، ثُمّ خشيتُ أن يشتكيني فارس لربّه، فيُقاضيني على اقتحام خواطره، والسطو على بواعث تفضيلاته، طمعًا منّي بانتشار أوسع للمقال (بالمناسبة، ألا يمكن اعتبار الكتابة عن فارس وأشباهه، استعمالًا دنيئًا لهم في نهاية المطاف؟!). ورغم أنّ بصر فارس لم يكن في أحسن أحواله، إلّا أنّه لم يفتقد أهم ما يلزم حارس المرمى؛ قوّة القلب، فحارس مرمى بقلب ضعيف سُرعان ما يتحوّل إلى أضحوكة مع أول انفراد أو ركلة ناريّة.

ظلّ فارس مدمنًا صحبة المرمي في حصص الرياضة، وخلال منافسات بطولة المدرسة بين مختلف الصفوف، حتى استطاع لفت انتباه أستاذ الرياضة، فحجز مكانًا في المنتخب الذي وقع عليه عاتق تمثيل مدرستنا في بطولة على مستوى المديرية. كنت في ذلك الفريق أيضًا؛ لا أزعم أنّي امتلكت مهارات استثنائيّة في مداعبة الكرة، ولم يقتنع زملائي المتأففون من اختياري بوصف أستاذي لي بأنّي ألعب بعقلي لا بقدمي، كما يليق بلاعب خطّ وسط أن يفعل. الحق أنّي امتلكت نوع حظوة عند أستاذ الرياضة، ربّما لأنّه كان سعيدًا بأدائي في المباحث الأخرى، فقد كان أيضًا أستاذنا في العلوم، ومديرًا للمدرسة في بعض الأحيان؛ إذ ساد في تلك الفترة من الانتفاضة نوع فوضى في حياة الناس، امتدّت أيضًا لمدرستنا التي بات بعض معلّميها عاجزًا عن الوصول إليها بفعل الحواجز والاقتحامات، فصار بعضهم الآخر يضطلع بمهام إضافيّة، تفرض عليهم "كوكتيل مهمّات" كالذي تجرّعه أستاذنا. المهم أنّي كنت حاضرًا في تلك البطولة؛ كنت هناك لأشاهد فارس.

وصلتْ إحدى المباريات الحاسمة (لست متأكدًا إن كانت النهائيّة) في البطولة إلى ركلات الترجيح. بدأ فارس يتلقّى التشجيع والدعم من زملائه في الفريق، وبدأ الجميع يعبث بشعره ويربت على كتفيه شحذًا لمعنويّاته. شعر فارس وقتها بالاهتمام كما لم يفعل من قبل. وصلنا إلى الركلة الأخيرة الحاسمة، وكان على فارس أن يصدّها كي يُعلَن فوز فريقنا بالمباراة. كنت هناك كلاعب احتياط عديم الفائدة أترقّب مع الجميع، والأنظار مُركزّة صوب فارس، وحيدًا في المرمى.

 عُدنا فرحين إلى مدرستنا بكأس بطولة ستُنسى في خزانة المدير، وبلحظة بطولة خالدة في ذاكرتنا، أيقونتها بكل بساطة، فارس!

بدت تلك كلحظة أيقونيّة في حياة فتى بالكاد قد بلغ عامه الثاني عشر. وها هو يفعلها!! فارس يصدّ الركلة، ولننهال عليه كالمجانين نقرص خدوده ونتقافز على بعضنا البعض احتفالًا، قبل أن ينضمّ إلينا أستاذنا بنظرة رضى وحبور في وجه فارس الخجول. لم يحظَ فارس باهتمامنا وامتناننا وحبنا كما حدث في ذلك اليوم!! وعُدنا جميعًا فرحين إلى مدرستنا بكأس بطولة ستُنسى في خزانة المدير، وبلحظة بطولة خالدة في ذاكرتنا، أيقونتها بكل بساطة، فارس!
غادرتُ مدرسة المدينة تلك إلى مدرسة ريفيّة على وقع الانتفاضة، وفارقتُ فارس مع زملائي الآخرين، وانقطعت علاقتي أو كادت بمعظمهم. بعدها ببضع سنين، وبفضل الإنترنت، فوجئتُ باسم فارس يرد في قائمة شهداء معركة مخيم جنين في نيسان عام 2002، بينما كنت أبحث في أرشيف الملحمة الخالدة.

للوهلة الأولى، استغربت الأمر كوني أعلم أن فارس كان من سكّان الحيّ الشرقيّ في المدينة، بينما يقع المخيّم غربها، قبل أن أستذكر المناوشات التي امتدت إلى بعض أحياء المدينة إبّان المعركة. وبمزيد بحث على الإنترنت، وقعتُ على "البوستر" الخاص بفارس، ففي فلسطين، تجتهد الفصائل المختلفة في "تبنّي" استشهاد أيّ فلسطيني، رغم أنّه في بعض الأحيان، وفي حالة كان الشهيد قد أقدم على فعل مُقاوم، قد يكون ذلك "البوستر" هو الدعم اللوجستيّ الوحيد الذي قدّمه الفصيل لفعله النضاليّ، أو بالأحرى بعده وفي سبيل الإعلان عنه. للمفارقة، وحده الموت من استطاع أن يكسر عاديّة حياة فارس، ويُجبره على إخلاف مواعيد وفائه لظلّه الأثير، فرحل على غير العادة، بل فوقها، فرحيل كهذا لا يكون عاديًّا، مهما تكرّر.

الطفل فارس عناد

يظهر فارس في "البوستر" رديء التصميم، بخلفية يظهر فيها الجامع القبليّ في المسجد الأقصى، بقميص أبيض وملامح عصيّة على التفسير، هي للحُزن أقرب، ونظرة عينين أذكر أنّي رأيتُ من مثيلاتها الكثير كلّما كان يقف في وسط المرمى يترقّب، فيما بدا في الصورة أنه يحمل شيئاً أسود، يصعب الجزم بماهيّته إذ توارى جزئيًّا خلف اسمه وتاريخ استشهاده، ولكنّه بكل تأكيد ليس كرة قدم نجح فارس في التقاطها. قد يكون ذلك سلاحًا، وقد لا يكون، ولكن في جميع الأحوال، حتى لو كان كذلك، فنحن نتحدّث عن حقبة كان التقاط الناس صورة لأنفسهم ممتشقين سلاحًا أمرًا اعتياديًّا في جنين، وخاصة في أماكن مثل المخيّم أو الحيّ الشرقيّ، بل وأكاد أجزم أنّ عدد من تصوّروا مع السلاح يفوق بالتأكيد عدد من استعمله منهم ضد الاحتلال. ثمّ لِمَ الاستغراب؟! فبالرغم من عجزي عن الجزم بأيّ شيء، بما في ذلك مُلابسات استشهاد فارس، التي لربّما لاءمت أكثر من هو أكبر منه سنّاً؛ ولكن مع كل ذاك، ألم أخبركم بأنّه كان قويّ القلب وحارسًا لا يهاب؟! أليس من الممكن لحارس مرمى كرة القدم أن ينزع بفطرته لحراسة حيّه ومدينته ووطنه؟!

يقولون أنّ ساكني الجنّة يلقون هناك ما يشتهون، ولا يُخيّب لهم رجاء، أو يُردّ لهم طلب. فكّرتُ بفارس، الذي نحتسبه موجودًا هناك الآن، فقلت لنفسي: لو أراد فارس استدعاء لحظة دُنيويّة ليُعاد تمثيلها على أرض الجنّة، ماذا كان سيختار؟! وماذا بوسع ابن الرابعة عشرة أن يرجو؟! أليس من الممكن أن يطلب "إعادة" لحظته الأيقونيّة، فينصب وسط الجنّة مرمى كرة قدم، من دون شباك كحال تلك المرامي التي اعتاد الوقوف أمامها في دنياه القصيرة، ثم يطلب من شهداء آخرين، غادروا الدنيا بنفس السنّ الذي غادرها به ربّما، من فلسطين وسواها، يطلب منهم أن يتجمهروا حول المرمى كما فعلتُ أنا ورفاقي من قبل، ثمّ يختار أحدهم للتصدّي لركلة الجزاء لا الترجيح، فموازينه قد رجحت والوقت وقت جزاء، ثمّ يدّخر أحد ولدان الجنّة خلف المرمى كجامع كرات، ليس شكّاً في مقدرته على التصدّي للكرة، بقدر ما هو شكّ في مهارة "خصومه" في تسديد الكرة داخل الخشبات الثلاث، قبل أن يتوجّه إلى وسط المرمى، ويعيد ذلك التصدّي الخالد، المرّة تلو المرّة؛ لا يملّ من احتفالات "زملائه" الشهداء، ولا أحضانهم!