08-نوفمبر-2023
نتنياهو والعدوان على قطاع غزة

جزء هام من تأهيل القادة العسكريين، ينصب على منحهم مهارات ضبط الأعصاب ورباطة الجأش في أوقات الطوارئ وفي أعقاب الصدمات الكبرى للسيطرة على الغريزة ومنعها من التحكم بعقولهم أثناء صياغة خططهم الحربية، فالحرب فعل واعٍ وعاقل ومُدبر، وهذا كله لا يعوز قادة مجلس الحرب الإسرائيلي، الذي يدير العدوان على قطاع غزة حاليًا، بدءًا من رأس هرمه نتنياهو ضابط الكومندو السابق والخبير الإداري، الذي جرب فنون إدارة الأزمات، وبيني غانتس الذي قضى في صفوف الجيش الجزء الأكبر من حياته جنديًا وضابطًا ورئيسًا للأركان ووزيرًا للجيش، قاد خلالها حربين على  قطاع غزة، وإلى جانبه شريكه في الحزب غادي آيزنكوت، وهو أيضًا رئيس أركان سابق، ووزير الجيش الحالي يوآف غالانت، وإلى جانبه بقية المستويات المهنية، من هيئة الأركان وخصوصًا الاستخبارات العسكرية وشعبة التخطيط، وجهاز المخابرات الإسرائيلية "الشاباك".

وليس ثمة خلاف إسرائيلي على توصيف أن صباح السابع من أكتوبر، فشل استخباري تتشاركه الاستخبارات العسكرية التابعة للجيش "أمان"، وجهاز "الشاباك"، وجهاز "الموساد"، وكل هذه الأجهزة لديها أقسام دراسات عجزت عن تقدير "نوايا الخصم"، وخططه واستعداداته الميدانية والتسليحية والتقنية، وكل قادة هذه الأجهزة اعترفوا بمسؤوليتهم عن الفشل باستثناء "الموساد"، وربما لاحقًا يتضح نصيبه من الفشل بعد أن يكشف عن نطاق القدرات التسليحية التي جلبتها حماس من الخارج. 

ردات الفعل الإسرائيلية الأولى، التي أعقبت عملية 7 أكتوبر، المباغته اتسمت بالطابع الغريزي

أما إخفاق الجيش الأساسي، فهو بفشله في حماية تحصيناته وعجز قواته عن التدخل السريع أو تنفيذ هجوم مضاد سريع. وفوق كل هؤلاء رأس الهرم السياسي المخول بالرقابة عليهم والمصادقة على خططهم  وفحص جاهزيتهم.

وردات الفعل الإسرائيلية الأولى، التي أعقبت عملية 7 أكتوبر، المباغته اتسمت بالطابع الغريزي، فقد تم استدعاء كل جنود خدمة الاحتياط تقريبًا، بعدد يصل إلى حوالي 360 ألف، وذلك انعكس على الأرض في شكل حالة شلل أفرغت معظم المرافق الاقتصادية من الأيدي العاملة، فيما لم يكن الجيش يملك تصورًا لطريقة زج هؤلاء بالمعركة الفعلية في قطاع غزة أو نشرهم على الحدود مع لبنان.

وشهدت الأيام الأولى قبل تشكيل مجلس الحرب الإسرائيلي "كابينت الحرب المصغر- نتنياهو وغانتس وآيزنكوت وغالانت"، جلسات "حروب الأنا ومن بعدي الطوفان"، عبر التسريبات لوسائل الاعلام، من قبل المستوى السياسي الذي سارع إلى تحميل مسؤولية الفشل للمستوى العسكري المهني وتوبيخه، مع استغلال حالة الغضب الجماهيري المهيمنة على المزاج العام في إسرائيل، فيما رد الجيش على التسريبات بالتسريبات. وبذلك انتهز المستوى السياسي والأمني، غرق المجتمع الإسرائيلي مستنقع الغضب والإحساس العميق بالقلق الوجودي. وبدلًا من أن يكرس نتنياهو وجيشه اتقانهم للحرب النفسية في مواجهة حماس، نال الجمهور الإسرائيلي جزءًا كبيرًا منه، أملًا في النجاة عندما تنعقد لجنة التحقيق في الفشل الكبير، ما بعد الحرب.

وبحسب المعلومات الواردة في الإعلام الإسرائيلي، فإن الوضع لم يختلف كثيرًا بعد انضمام الثنائي غانتس وأيزنكوت لمجلس الحرب الجديد، بل أن غانتس يسعى إلى عقد مؤتمرات صحفية مشتركة بحضور نتنياهو وزير الجيش غالانت، ولكن نتنياهو يفضل أن يبقى منفردًا في إلقاء الخطابات دون تقديم إجابات للصحفيين، مع الإشارة إلى أن نتنياهو سعى إلى ضم غانتس، الذي يُعدّ أبرز منافسيه، من أجل مشاركته في إدارة حرب فيها هامش المخاطرة كبير جدًا، ليجد من يتقاسم معه مسؤولية الإخفاق المحتمل مستقبلًا.

وتوصيف استخدام الغريزة في "حروب الأنا ومن بعدي الطوفان" داخل كابينت الحرب، ربما  يتطلب رسم ملامحه في مساحة منفردة، ليس محلها الآن، لكنّ في مقدمة إجبارية لتشخيص استغلال "نتنياهو وخصومه من المستوى العسكري"، يعني الرغبة الغريزية في الانتقام والإحساس بالخوف الوجودي، الذي لم يزل منذ السابع من أكتوبر، ليكون الدافع الرئيس في العقل الجمعي والفردي لدى الإسرائيليين.

getty

فنتنياهو وخصومه يريدون إطالة أمد الحرب وحقن الإسرائيليين بجرعات متوالية على مدار الساعة من صور الدمار الهائل والمعطيات حول الأعداد الكبيرة من  الضحايا في غزة، للتخفيف من حالة الغضب وترميم صورتهم في إسرائيل، ونتنياهو الجيش يدركان أن نجاح هذا التوجه لن يكون بنسبة 100%، لكنه ملح جدًا، وليس ثمة بديل ناجع.

ونتنياهو خبير في التلاعب بالعقول والقلوب وغرائز للمجتمغع الإسرائيلية، إذ في بداية الحرب برر التريث في العدوان البري، بالرغم من أن البداية فيه كانت تعني تراجع احتمالات استعادة الأسرى أحياءً، وفي تلك الفترة كانت جرعات الصور التي توثق الخراب والدمار القادمة من غزة، يتم ضخها في عقول الإسرائيليين بشكل متواصل، وهو بالطبع يدرك أن الحرب غير مقنعة لجمهوره بدون شقها البري. كل ذلك جرى لاستنفاذ كل ما يمكن أن تقدمه الغارات الجوية، والأهم من أجل إطالة الحرب البرية. وعندما شرع بالتوغل في غزة برر ذلك بأنه ضروري لدفع حماس للإفراج عن الأسرى، وبذلك استخدم نفس المبرر لإقناع الإسرائيليين بالشيء ونقيضه.

رغم خروج وزير الزراعة الحالي، ووزير الأمن الداخلي ورئيس جهاز الشاباك الأسبق، آفي ديختير، وهو من أكبر الخبراء في إسرائيل بشؤون حماس، في حديث لصحيفة "يسرائيل هيوم"، قال فيه إن "من يعتقد بإمكانية استعادة الأسرى من حماس بوسائل عسكرية فهو لا يعرف طبيعتها".  

ولمعرفة وجهة الحرب وتلاعب الجيش بغرائر الإسرائيليين، بالإمكان الإشارة إلى تقييم المعلق العسكري لصحيفة "هآرتس"، الذي رجح أن رفع معنويات الإسرائيليين هو الدافع وراء خروج المسؤول العسكري الإسرائيلي الكبير، الذي أبلغ الصحفيين أن الجيش قتل بنيرانه 20 ألف فلسطيني، غالبيتهم العظمى من حماس والجهاد الإسلامي.

وفي المؤتمرات الصحيفة التي يجريها قادة مجلس الحرب وقادة الجيش، وفي الأحاديث مع حلفائهم كما تؤكد وسائل الإعلام العبرية، لا يتم التطرق إلى غاية الحرب، وحتى الآن فإن نتنياهو يرفض أن يقدم للولايات المتحدة هدفه النهائي بعد "تفكيك حماس". رغم أن معرفة كيفية الخروج من الحروب، هو الهاجس الأول الذي من المفترض أن يكون حاضرًا في ذهن كل من يخطط لها. والأكيد أن أولية نتنياهو تدور حول التفكير في مرحلة ما بعد الحرب،وما يتعلق بمصيره في سدة الحكم ولجان التحقيق في 7 أكتوبر، والتقاءه مع خصومه في بعض هذه النقاط، تساهم في التخفيف من حدة الغضب الجمهور الإسرائيلي بـ"مخدرات الإنجازات والاغتيالات وصور الدمار غير المسبوق" في قطاع غزة.