23-مارس-2018

Anthony Asael/ Getty Images

تخيّل لو كان بإمكان العقل البشري تخزين أحاديثنا وأرشفتها في ملفات منظمة ومرتّبة أبجديًا. تخيّل أنّ بإمكانك أن تعود إلى أيّ كلمة وتسمع كل المرّات التي تحدّثت فيها عن هذه الكلمة سواء كانت هي موضوعك الرئيس أو مرّت في حديثك مرورًا عابرًا. كلّ كلمات الحب، الشتائم، الأحزاب، الصلوات بالإضافة إلى أسماء أصدقائك وزملائك بالعمل، سيمنحك عقلك خيارات أن تسمع كلّ أحاديثك السابقة عن ذاك الصديق وتلك الزميلة، تخيّل!

   ماذا لو كان بالإمكان تخزين أحاديثنا وأرشفتها في ملفات؟ ستكون النتائج مليئة بالأوجاع والخيبات حول أصدقاء كانوا خير الأصدقاء ولم يعودوا كذلك!   

سيكون عقلك دقيقًا في بحثه، فحتى لو وردت كلمة البحث في أغنية كنت قد رددتها قبل أشهر أو أعوام، بقصد أو بدون قصد، ستكون تلك الدندنة ضمن قائمة النتائج. حتمًا ستكون النتائج مليئة بالأوجاع والخيبات حول أصدقاء كانوا خير الأصدقاء ولم يعودوا كذلك، وستبدو النتائج مضحكة وظريفة إذا كانت تتضمن أوّل حديث بينك وبين شريكك الذي يجلس بجوارك وأنت تستمع لهذا الحديث، وتضحكان سويًا على ارتباككما الأول.

بعيدًا عن الأوجاع أو الضحكات التي قد يجلبها لك عقلك وأنت تبحث، فإنّ  تقنية البحث هذه مفيدة أيضًا لمراجعة أفكارنا السياسية أو الدينية، مواقفنا من الأحداث وتفاعلنا مع الأخبار، سنتفاجأ بالكثير من تناقضاتنا التي لم نكن لنعلم بوجودها لولا هذه الخاصية الرائعة التي طوّرها عقلنا، والتي تبدو أداة مناسبة لإشباع الحنين إلى الماضي وأيضًا لمراجعة الذات.

الآن يظهر الجانب المخيف من لعبة الاستماع هذه! فلا أحد منّا يريد أن يسمع حماسته القديمة للحرية التي سيجلبها فوز المرشح الفلاني في الانتخابات، هذا المرشح الذي فاز فيما بعد ولم ترَ الناس منه إلا القتل والاعتقال والمزيد من الفساد.

ستخطر على بالك الآن العديد من الكلمات والوجوه التي تود أن تبحث عنها، عن رأيك السابق بها ومقارنته برأيك الحالي: ما الذي تغيّر ولماذا تغيّر وأيهما كان الأصدق وأيهما الأصح؟ هذه المقارنة لا شرط زمني لها، فقد يكون حديثك بحماسة عن قدرة المخيم وأهله على الاستمرار بالحياة والمقاومة معًا حدث بالأمس مثلًا، بينما تكون نصيحتك لزميلك  بالتحرّي جيّدًا عن الشاب الذي يرغب باستئجار شقّته لأنه مخيّمجي!

   سنجد أننا مُثقلين بالتناقض، وسنتفاجأ من قدرتنا على فعل ذلك بأنفسنا وبالكلمات، حتمًا سيصيبنا الإحراج عندما نفشل في شرح أسباب هذا التناقض وظروف تكوينه

هل تحدّثت عن المخيم وأهله؟ أعتذر عن المقدمة الطويلة التي تمكّن فيها خيالي من الاستماع للكثير من نتائج البحث وعلّكم فعلتم مثلي، وكل هذا كان من أجل الوصول إلى كلمة المخيم، ليس ببعد عاطفيّ فقط، بل لأنني تذكرت قلق زميلة سابقة في العمل بعد معرفتها أنّ الشاب المهذب الذي طلب منها أن تكون وسيطًا بينه وبين فتاة يكنّ لها إعجابًا هو ابن مخيم! كانت تتحدث عبر الهاتف وتردد أنّها لم تكن تعرف من أين هو، وأنها عرفت ذلك متأخرًا بعد أن تحدّثت مع الفتاة المقصودة!

كأنّها في ورطة، لا يمكن وصف المشهد بأكثر من ذلك. ولكنّها لو تمكنت من استخدام تقنية العقل الجديدة هذه لعرفت أنها في ورطة أكبر. فإن هي بحثت عن كلمة "لاجئ" ستجدها كثيرًا في عقلها، فهي تحب أغنية أحمد قعبور "لاجىء" وتشاركها على صفحتها على "فيسبوك" كلّما قدّمت نشرة الأخبار سببًا لذلك.

ربما بإمكانك أن تستبدل كلمة مخيم بأي كلمة أخرى وأن تستبدل زميلتي بنفسك، وربما أفعل ذلك أيضًا، سنجد أننا مُثقلين بالتناقض، وسنتفاجأ من قدرتنا على فعل ذلك بأنفسنا وبالكلمات، حتمًا سيصيبنا الإحراج عندما نفشل في شرح أسباب هذا التناقض وظروف تكوينه، ولكننا سنكون ممنونين للعقل أيضًا لأن تقنية تخزين الكلمات وأرشفتها وإعادة الاستماع لها ليست متاحة ولن تكون أبدًا.


اقرأ/ي أيضًا:

الإعلام الفلسطيني في الشتات.. صورة شبه ضبابية

أغنية "نادي الوحدات".. عناد المخيم ورفضه

المخيم ومضاعفة النكبة