بعد فشلها الاستخباراتي الأوّل، ربّما كانت الحكومة الإسرائيليّة لتدفع ثمنًا أكبر من مجرّد الفضيحة لو حاولت القيام بعمليّةٍ أخرى في غزّة تحفظ ماء وجهها، وقد تقود إلى حربٍ شاملةٍ في الوقت ذاته. عمليّة أخرى، كانت ربّما كما تشير المعطيات لتفشل هي الأخرى في ضوء عمليّات القصف التي قام بها سلاح الجو الصهيوني في قطاع غزّة في اليومين الماضيين.
قبل أسابيع كان رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك يتباهى بضربة الحرب الأولى التي استشهد فيها أكثر من 300 فلسطيني بتاريخ 27 ديسمبر/ كانون الأوّل عام 2008، في حرب غزّة الأولى بعد انسحاب إسرائيل من قطاع غزّة. ذلك ما كان يوصف من قبل الصحافة الإسرائيليّة والفلسطينيّة والعالميّة أيضًا، بالتصعيد الإسرائيلي وقرار الحرب المُعلَنْ على غزّة. أمّا في عام 2018، فقد اختارت المقاومة التصعيد بعد ساعاتٍ قليلةٍ على تشييع جثامين شهداء خانيونس، بقصفٍ مكثّفٍ تجاوز الـ 350 صاروخ من المقاومة الفلسطينيّة على مستوطنات غلاف غزّة وأسدود وغيرها من مدن فلسطين المحتلّة، إضافة إلى عمليّة تفجير حافلة تقلّ جنودًا صهاينة بواسطة صاروخ كورنيت موجّه.
تفجير الحافلة، وفشل عملية خانيونس، يؤكدان التفوق الأمني للمقاومة في قطاع غزة على جيش الاحتلال
في المقابل، اختار الجيش الإسرائيلي قصف مبنى فضائيّة الأقصى بعد تحذير العاملين في الفضائيّة، وكذلك مبنى الرحمة ومبنى فندق الأمل في قطاع غزّة، للردّ على قصف المقاومة الفلسطينيّة وعمليّاتها التي خلّفت ربّما ما يزيد عن 3 قتلى إسرائيليين وعشرات الإصابات في صفوف المستوطنين الصهاينة في مستوطنات غلاف غزّة.
اقرأ/ي أيضًا: القبة الفضيحة
يمكن تبرير هشاشة الردّ الصهيوني على قصف المقاومة بانعدام الرغبة لدى الحكومة الإسرائيليّة وخصوصًا رئيس وزرائها الذي سبق وأن بيّنت العديد من التقارير هلعه في الحروب وضعف شخصيّته كرجل حرب وكرجل قرارات حاسم؛ ولكن، ليس فقط إلى ذلك.
ربّما لو كان أمام نتنياهو خيار اغتيال شخصيّة هامة في كتائب القسام أو في القيادة السياسيّة لحماس أو فصائل المقاومة الأخرى في القطاع؛ لما تردّد طويلاً في اتخاذ القرار الذي قد يحفظ ماء وجهه بعد فشله الاستخباراتي الذريع في عمليّة خانيونس، وكذلك فشل القبّة الحديديّة "الفضيحة" في التصدّي لصواريخ المقاومة المكثّفة التي أمطرت بها مستوطنات غلاف غزة في ساعاتٍ قليلةٍ عجزت خلالها القبّة الحديديّة عن التصدّى لمعظم صواريخ المقاومة التي بيّنت هشاشة الجبهة الصيهونيّة الداخليّة في بضع ساعاتٍ بعد تشييع جثامين شهداء خانيونس.
في المقابل، مثّلت عمليّة تفجير الحافلة الصهيونيّة منعطفًا هامًا في مسار الأحداث في موجة التصعيد الأعنف منذ عام 2014 بين المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة والجيش الإسرائيلي. من جهة، فإنّ اتخاذ قرار تفجير الحافلة الذي شكّل صدمة أمنيّة بالنسبة للجيش الإسرائيلي وجمهور المستوطنين في غلاف غزّة، يُشير إلى أريحيّة كبيرة تشعر بها المقاومة الفلسطينيّة تؤكّد على ترسيخ المقاومة لمعادلة التفوّق الأمنيّ على حساب جيش الاحتلال، على عكس ما صرّح به أفيخاي أدرعي لقناة الجزيرة أنّ عمليّة خانيونس هدفت إلى ترسيخ التفوق العسكري لجيش الاحتلال في معادلة غزّة، والتي شكّلت هي الأخرى، أي عملية خانيونس، فشلاً أكّد على التفوّق واليقظة الأمنيّة للمقاومة الفلسطينيّة في قطاع غزّة على المنظومة الاستخباريّة الصهيونيّة.
في عام 2008 غامرت الحكومة الصهيونية باغتيال رئيس أركان حماس، كما يوصف، أحمد الجعبري، ما قاد إلى حربٍ شاملةٍ بين المقاومة وجيش الاحتلال. كذلك في عام 2014 غامرت باغتيال عدد من قادة المقاومة، وهو الأمر الذي قاد إلى تصعيد المواجهة بين المقاومة وجيش الاحتلال. إلّا أنّ جيش الاحتلال في هذه المواجهة اكتفى بقصف عدد من المباني في قطاع غزّة، من بينها مبنى فضائيّة الأقصى بعد تحذير العاملين فيها، في إشارة واضحة إلى تخوّف صهيوني من ارتفاع عدد الشهداء، الأمر الذي قد يؤدّي إلى مواجهة شاملة بين المقاومة وجيش الاحتلال؛ وهذا ما يُدلِّلُ بشكلٍ كبير إلى أنّ عدم التصعيد الصهيوني ليس عائدًا فحسب إلى ارتباكٍ في الحكومة الصهيونية ودوائر صنع القرار السياسي، بل أيضًا إلى فقر بنك الأهداف الإسرائيليّة.
إسرائيل أمام خيارين: إما القبول بوجود مقاومة في غزة لا يمكن اقتلاعها، أو حربٌ شاملة لسنواتٍ لا أحد يعرف إلى أين ستقودها
فالتصعيد باتجاه حرب شاملة عن طريق القصف العشوائيّ ردًا على صواريخ المقاومة وعمليّاتها، سيُفضي بالنهاية إلى حرب شاملة عمياء، لا بنك أهداف واضح فيها، ليس لها هدف أو غاية مُعلَنة سوى الشعار الصهيوني الدائم، وهو تطهير قطاع غزّة من المنظمات الإرهابية. هو الشعار ذاته الذي لم يقدر جيش الاحتلال أبدًا على تنفيذه على الأرض، وهو الشعار الذي يبدو أنّ جيش الاحتلال غير قادر على تنفيذه أبدًا؛ إلّا بواسطة حرب شاملة تقوم على سياسة الأرض المحروقة، هذه الحرب التي قد تمتدّ لسنواتٍ طويلةٍ لا تعرف إسرائيل أبدًا إلى أين قد تُفضي بها وبالضفّة الغربيّة وجبهة الشمال والداخل الفلسطيني المحتلّ. هذا خيارٌ يبدو مستحيلاً على سياسيّ إسرائيليّ اتخاذه في يوم من الأيّام.
في النهاية، يبدو أنّه مع مرور الوقت، تزداد إسرائيل جهلاً في الوضع الحقيقيّ في قطاع غزّة، وبما أنّها تزداد جهلاً فإنّ منظومتها الدفاعيّة المتمثّلة في القبّة الحديديّة تزدادُ هشاشة وضعفًا في مواجهة صواريخ المقاومة التي هي في حرب استخباريّة دائمة في مواجهة إسرائيل ومنظومتها الدفاعيّة. وبينما تزداد إسرائيل جهلاً، تزداد المقاومة صلابة وخبرة واكتسابًا لمنظومة دفاعيّة وهجوميّة صاروخيّة قادرة على إخضاع العنجهيّة الصهيونيّة لميزان القوى على الأرض وفرض خيار من اثنين: إمّا الاستسلام لوجود مقاومة لا يمكن انتزاعها من أرض غزّة، وبالتالي الخضوع لمنطق هذا الوجود. أو الحرب الشاملة وسياسة الأرض المحروقة التي قد تأخذ سنينًا طوالًا في حربٍ لا أحد يعرف إلى أين ستنتهي، وما الحالُ الذي ستبدو إسرائيل عليه في مواجهة عشرات آلاف الصواريخ والمقاومين في قطاع غزّة.
اقرأ/ي أيضًا:
فيديو | تدمير حافلة كانت تُقل جنودًا من جيش الاحتلال