تفرّ عائلة سكّر من الحر الشديد داخل الكرفان الذي تسكنه، إلى حيث انعدام الأمان، مقابل السياج الفاصل بين قطاع غزة المحاصر، والأراضي المحتلة عام 1948، لتتناول إفطارها في مساء كل يومٍ من شهر رمضان الفضيل. يزيد صعوبة لحظات الإفطار انقطاع التيار الكهربائي، وتحركات دوريات جيش الاحتلال الإسرائيلي، فيفقد شهر رمضان إحدى قيمه المتمثل بالسكينة والاطمئنان.
لا يستطيع المزارع عوني سُكر (50 عامًا) إزالة خوف أفرادِ عائلته من الجلوسِ خارجًا، وما قد يتبعُه من إطلاقِ الدوّريات التي تتمركز بين الفيّنةِ والأخرى على السياج الفاصل رشقاتٍ من الرصاص التي قد يُفكرُ في إطلاقِها جُنديٌ تماهى لهُ أن هُناكَ حركةً مُريبةً في المكان، أو أراد فقط أن "يتسلى"، حسب قول سكر.
سكان "المناطق الحدودية" في غزة يُحرمون صلاة التراويح في رمضان، وزياراتهم العائلية يجب أن تنتهي قبل حلول الظلام
مائدة الإفطار في رمضان تحتوي فقط على وجبة أساسية وعصائر، فتعدد الأصناف هنا غير متاح، بسبب الظروف المعيشية القاسية. فالوضع الأمني غير مستقر، والمنطقة زراعية مكشوفة لا عمران فيها، والوصول إلى السوق يستدعي اجتياز رب المنزل مسافة طويلة لا تتوفر في قسمٍ منها المواصلات بسهولة، وفقًا لغيداء زوجة عوني.
اقرأ/ي أيضًا: شمال غزة: منطقة الصراع الهادئ
الحلويات أيضًا لا تتوفر دائمًا في موائد سكان هذه المناطق. تقول غيداء إنها تحاول تعويض أطفالها ببعض السكاكر البسيطة، مبينة، أنها تزرع بعض الخضراوات في مساحةٍ جانبيّة للكرفان لا تتجاوز ثلاثة أمتار، لاستخدامها في "الأيام الصعبة أمنيًا"، وتجنيب زوجها التوجه لأرضه التي تبعد 200 متر عن الكرفان، أو الذهاب للتسوق في رحلة تنتهي عندما تشرف الشمس على المغيب.
عائلة سكر واحدة من عائلات عديدة لازالت تسكن في كرفاناتٍ منذ سنين، بعد أن دمرت غارات الاحتلال الإسرائيلي منازلها، خلال العدوان على قطاع غزة. فالمنطقة التي تسكنها هذه العائلات تعتبر من بين الأكثر سخونة في قطاع غزة، بسبب قربها من السياج الفاصل.
ويستهدف جيش الاحتلال على الدوام المزارعين بالرصاص خلال عملهم في أراضيهم، حتى دون اقترابهم مما تسمى "المنطقة العازلة" البالغة 300 متر داخل حدود غزة، مخترقة اتفاق التهدئة مع المقاومة الفلسطينية الذي أُبرم في شهر آب/أغسطس 2014.
حسام أبو جبارة من منطقة "وادي السلقا"، وهي منطقة حدوديّة تقع بين وسط قطاع غزة وجنوبه، يعيش رمضان مثل أي شهرٍ آخر، مع اختلاف مواعيد تناول الطعام فقط. فالأجواء الروحانية المتمثلة أولاً في صلاة التراويح لا تصل لهذه المنطقة التي تخلو من أي مساجد.
وفي كل مساءٍ يُخيم الصمت على أفراد عائلة أبو جبارة، محاولين التأكد ما إذا كان وقت الإفطار قد دخل، فغالبًا صوت المؤذن لا يصلهم.
حالة السكينة والصمت هذه كثيرًا ما تخرقها أصوات الرصاص، فجنود الاحتلال يحلو لهم فتح نيرانهم خلال وقتي السحور والإفطار، وقد أسفر ذلك عن إصابة أحد أبناء حسام في قدمه، ما شكّل هاجسًا لبقية أفراد العائلة، وتحديدًا حسام الذي بات منشغلًا بمراقبة تحركات أبنائه، ومنعهم من اللعب خارج المنزل بعيدًا عن ناظريه.
يضيف حسام، "بُعد المنطقة عن أقاربي، جعلني لا أزور رحمي سوى مرتيّن على الأكثر خلال شهر رمضان" مشيرًا إلى أن جيش الاحتلال يُجبر سكان المنطقة من حين لآخر على إخلاء مساكنهم بزعم وقوعها ضمن منطقة "نشاط أمني حدودي".
جنود الاحتلال يستهدفون ليلاً كل جسم متحرك بالرصاص في "المناطق الحدودية"، ما يجعل الليل فترة لحظر التجول
ولا تعني التهدئة بين الاحتلال الإسرائيلي والمقاومة مبيت سكان المناطق المحاذية للجدار الفاصل آمنين في مساكنهم. فهذه المناطق هي الأكثر عرضة للقصف بعد كل صاروخ يُطلق من داخل قطاع غزة صوب الأراضي المحتلة، وقد أسفر ذلك عن استشهاد طفلين وامرأة في عام 2016.
وخلال عام 2015، أطلق جيش الاحتلال النار على طول الشريط الحدوديّ لقطاع غزّة 194 مرة، كما نفّذ 44 توغّلاً، حسب التقرير السنويّ عن أبرز الإنتهاكات الإسرائيليّة الصادر عن "مركز حماية لحقوق الإنسان" في شهر كانون الثاني/يناير 2016.
الشاب العشريني نزيه معروف، أحد سكان منطقة "السيفا" شمال بيت لاهيا، يقول إن الزيارة العائلية في المنطقة، تكون، إن حدثت، خلال ساعات الصيام نهارًا، وتحديدًا بعد العصر، وتنتهي سريعًا قبل حلول الظلام، فالمساء يعني حظر التجول في المنطقة، تخوفًا من إطلاق جنود الاحتلال الرصاص على كل جسم متحرك.
وتبدو مشاهد توغل الآليات العسكريّة وإطلاق النار في المناطق الزراعيّة القريبة من الحدود، جزءًا من الحياة اليومية، لسكان تلك المناطق، حسب معروف.
ويلجأ معروف وإخوّته للتبضُع كل يومين في رمضان، ونقل المواد التموينيّة عبر عربة "كارو" لمنزلهم، نظرًا لوعورة الأراضي الزراعيّة، ورفض سائقي سيارات الأجرة إيصالهُم لتلك المنطقة.
وتشكل الدبابات وأبراج المراقبة والآليات العسكرية الخاصة بجيش الاحتلال، وجهًا آخر يُفسد روعة المناظر الطبيعية التي تتمتع بها منطقة السيفا، الممتدة لنحو ثلاثة كيلومترات، ويتراوح عرضها من 700 متر إلى كيلو متر واحد.
اقرأ/ي أيضًا:
طلاب أجانب في غزة: هنا ما يستحق الحياة